لا شك بأن من أعظم وأندر النعم التي يُرزقها المرء أن يرزق معرفة نفسه، أن يكون على وعي تام بذاته، بتأثير الحوادث والأشياء عليه، بالاستماع إلى صوته الداخلي -الحدس- باختيار اللائق وترك مالا يليق، قد يقع الانسان في فخ الهوى والرغبة، ويطارد أمرًا لا يليق به، ولكن عودته للطريق الصحيح هو المهم.
لن يتمكن الانسان معرفة نفسه، والوعي بذاته إلا بالتجارب، التجارب تكشف مكنونات النفس الانسانية، تكشف نقاط القوة ونقاط الضعف، وخصوصًا التجارب العاطفية، تلك التجارب تعكس الكم الهائل الدفين في العقل اللاواعي داخل الانسان، فتظهر معضلات شتى، تظهر ردود أفعال ماكان يعلم بها المرء، تظهر صفات وطباع عديدة، يستطيع الانسان معرفة الكثير عن نفسه، إن كان على وعي تام بما يحدث، وفي هذه المواقف تظهر أهمية “الوعي الذاتي”، أن يعي بأن ما يمر به على الأغلب هو نتاج حوادث ومواقف خُزنت في عقله الباطن أثناء طفولته، ثم تلك الصدمات التي تعرض لها في فترة المراهقة، ثم الخيبات والخذلان الذي مر به في شبابه، كل موقف يترك أثرًا في نفسه، فيظهر ذلك الأثر لاحقًا على هيئة ردود أفعال ينكرها المرء، أو يتهرب منها.
الوعي بالذات يجعلك تدرك تمامًا إلى أين تقودك الأفكار والعواطف التي تتعرض لها، استمعت قبل فترة ليست بالقصيرة لمقطع مسجل يتحدث فيه ذلك الشخص عن هذا الأمر وعلقت بذهني الخطوات التي تم سردها ليصل المرء إلى فهم نفسه:
- الملاحظة الواعية للنفس: أن ينتبه الشخص إلى تعامله مع الخارج، مع الآخرين والأشخاص من حوله، أن يكون شديد الملاحظة والدقة للكلمات والأفعال، لردود الأفعال، والوسيلة الفعالة لتحقيق ذلك هي الكتابة، الكتابة بشكل يومي ومستمر وتكون على نوعين:
كتابة وصفية: بأن يكتب الحدث، أن يكتب ما يشعر بأنه مهمًا بالنسبة له من الوقائع والمشاعر والأفكار التي ارتبطت بالنفس، يصف التفاصيل المتعلقة بالحدث.
ثمّ الكتابة التحليلية: يقوم بتحليل الأمر، أن يعلق على الأمر ويكتب رأيه فيما حدث، أن يتناول الأمر من عدة جوانب، يكتب تأثير الحدث على نفسه.
- التجربة المقصودة: أن يقوم بعمل شيء يختبر فيه نفسه، أن يجرب نفسه وذلك بوضعها داخل تجربة جديدة، فتظهر من خلال تلك التجربة حقائق عن الذات ما كانت ستظهر لولا وجوده فيها، وهنا تظهر العديد من الصفات الشخصية (الخوف، الشجاعة، الجبن، المروءة، الحلم، الصبر…الخ) قد تظهر أيضًا صفات غير محمودة، مثل: الغضب، قلة الصبر، إساءة الظن بالآخرين، الحسد، الغيرة، وغيرها، لن ينتبه لها الشخص مالم يكُن قاصدًا تلك التجربة، وتحليله ووعيه الكامل بتفاصيل الأمور، عندها سيلاحظ وسيعترف ويقر بوجود تلك الحقائق عن نفسه.
- النظر في شأن النفس: أن تكون تلك عادة ملازمة للشخص بأن يخصص وقتًا لنفسه، ينظر في شأن نفسه، يعطها الحق والأولوية ويمنحها حظًا من التأمل والتفكير والاسترخاء والملاحظة الواعية لحقيقة المرحلة التي يمر بها، وتأثير تلك المرحلة على ذاته.
- استنطاق الأصدقاء الصادقين واستنصاحهم في أن يكونوا مرآة للنفس: يجب أن يكون هنالك ذلك الصديق المقرب الذي لديه مخزونًا من العلم والفهم والشفافية المطلقة، يبدي لك سيئاتٍ في نفسك، ويحثك على تهذيب طباعك، ويبرز لك حسناتك ويذكرك بضرورة الحفاظ عليها واستبقائها، يقدم لك النصح والمشورة متى ما احتجت إليها، إن لم يكن لك ذلك الصديق فقد حرمتَ فضلًا عظيما، ابحث عنه وفتش عليه، واكسب الأصدقاء الصادقين النصوحين الأخيار، قد لا يحتاج البحث عناءً، فقد يكون ذلك الصديق هو أحد أفراد عائلتك، والدتك أو والدك أو أحد إخوتك. ونصيحتي اختر من الأخلاء أخير الناس، لا تصاحب بذيء اللسان، سيء الخلق والطبع، فإن ذلك ولابد سيترك أثره السيء عليك،
قال علقمة العطاردي (في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة): يابني، إن عرضت لك حاجة، فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، أي: حفظك، وإن قعد بك مانَك أي: حمل مؤونتك، اصحب من إذا مددت يدك لخير مدها، وإن رأى منك حسنةً عدها، وإن رأى سيئةً سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن نزلت بك نازلة واساك؛ (أي جعلك كنفسه)، اصحب من إذا قلت صدّق قولك، وإن حاولت أمرًا آمرك، وإن تنازعتما آثرك.
- تعريض النفس لمعايير وقيم ومبادئ منفصلة عنها: مؤخرًا أصبحت أواجه في حياتي أشخاصًا من مجتمعات مختلفة، وبعيدة تمام البعد عن مجتمعي، لم أعتقد يومًا بأنني سأندمج أو أكون بهذا القرب منهم، كان من الصعب علي في بداية الأمر تقبل أن أكون جزءًا من تلك البيئة أو ذلك المجتمع، ومع الوقت ظهرت لي العديد من الأمور والحقائق، شعرتُ بأني خرجت من دائرتي الصغيرة تلك إلى داِئرة أكبر، بأني أصبحت على فهم وتقبل لمختلف المجتمعات، بأن تلك التجربة مكنتني من فهم أوسع، لم تعد العنصرية أو الانتماء لمجتمع واحد دونًا عن غيره معضلةً كبيرة، وإن لم أتخلص منها بشكل كامل ولكن على الأقل أصبحت أكثر تقبلًا وتعاطيًا مع الآخرين، عندما تجاوزت شوطًا كبيرًا من الرفض، وصلت لمرحلة التقبل، ومع تتالي التجارب أصبحت كل تجربة تأتي آكدةً لما قبلها، ولكن الوعي بالأمر، والتعرض لموقف يصارع الفكرة السابقة ويغرس قيمًا جديدة بالنفس ساعد كثيرًا في استدراك الأمر ومعالجته.
وهذه المواقف تجعل الشخص يخرج إلى الوسيلة الخامسة ألا وهي:
- ضرورة قبول ضعف هذه النفس البشرية: النفس البشرية بطبيعتها ليست مستقلة ولا معصومة ولا مستقيمة، بل هي معرضة للنقص والخطأ والظلم، لذلك علم الله مافي أنفسنا، وعلم الضعف الموجود في النفس، فجعل باب التوبة مفتوحًا، وأخبرنا بأنه يقبل كلّ من يُقبل عليه، وأنه لا يرد توبة، بل حثنا على الرجوع الدائم إليه مهما كثرت الزلات والعثرات والأخطاء والذنوب، فإنه يعفو ويصفح، يقول عزّ وجل: “ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم”، يأتي هذا النداء مطبطبًا مواسيًا للنفس التي أثقلها الهمّ والخطيئة، إن كان الله جل جلاله علم نقص نفسك وقبلك ويقبلك مادامت الروح في الجسد، فلماذا لا تقبل أنت هذا الضعف، لماذا تتعامل مع نفسك بكل هذه القسوة، والصراع الدائم، كُن أكثر هدوءًا في تعاملك مع ذاتك، سامح واصفح، كلّنا نبحث عن المبادئ والقيم العليا، وكلنا في صراع لنصل إلى الصورة الأمثل لذواتنا، والدرجة العليا من الرضا، ولكن البعض إن لم يصل إلى تلك الدرجة يدخل في صراع وإحباط وشتات فلا يستطيع فهم نفسه، سنجد بأن القرآن والسنة وأقوال العلماء كلها تحث المرء على معالجة النفس، ومجاهدتها، والإقرار بحقيقة ضعفها.
- التجربة الطويلة في الحياة: كلنا عرضةً لتجارب طويلة ومعقدة في حياتنا، وجودك في تلك التجارب يوصلك لمرحلة من النضج والوعي الكافي عن النفس وعن الحياة.
- دوام تزكية النفس ومحاسبتها: قال تعالى: “وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى” كلنا عرضة في لحظات الضعف للهوى، فنجد أننا انجرفنا مع موجة عارمة، وفقدنا السيطرة على أنفسنا، فنغرق ونظل في جهاد حتى ننجو من تلك الفتنة. الوقوف الدائم مع النفس ومحاسبتها أمر يدل على أنه لا يزال في القلب حياة، أن نقف بين النفس وبين الهوى فنمنعها، فالانسان الذي يتخذ إلهه هواه لا يمكنه التعرف على نفسه، فتذوب النفس وتذوب الشخصية، وتصبح تلك النفس سائحة لا قرار لها ولا خيار، وفي هذا التنازع بين النفس وبين الهوى يحصل تعرف الانسان على نفسه، وفي هذه المواقف عندما يختار الانسان الرجوع إلى طريق الصواب، والإمساك بزمام النفس يحصل التعرف على النفس، ويبدأ عندها العلاج.
يقول علي بن أبي طالب: ” إن أقوى الناس من قوي على نفسه”.
الوعي بالذات، والتزكية الدائمة للنفس، تمنح المرء القوة والدافع للعدول عن الخطأ، والعودة إلى الصواب، ولا يتم ذلك لأي إنسان إلّا بتوفيق من الله، وبالرغبة الصادقة والحقيقية، والدعاء الدائم، والجهاد المستمر، فإن ذلك توفيقٌ منه وفضل ومنّه.