
لا يزالُ صوتها في أذني ، دعاؤها في عتمة اللّيل ( ربّ ارحمني ) ، أنينها الذي لا يتوقّف ، حركتها المُفاجئة وهي تنادي ابنتها : رباااب .. يا بتّي يارباااب !
الألم الذي شاخ في نبرةِ ندائها ، شعرها الفضيّ ، جمالُ وجهها رغم كبر سنّها ، ونظرتهَا تلك !
تلك النظرَة العميقة التي هزّت كياني ، عندما فُتحت الستارة التي بيننا ، وقعت عيناها على عيني ، أربكتني تلكَ النظرَة ، نظرة الضعف ، نظرَة الوهن ، كانت تنظر إلي وتئنّ ، خشيتُ وقتها ، خفتُ كثيرًا ، أغلقتُ الستار بسرعةٍ وكأنني أهربُ من شيء لا أعلم ماهو ، علقت الدهشة في ملامحي ، يالله .. هل يصلُ الإنسان إلى هذه المرحلة من الضعف ، عندمَا يمرضُ الإنسان سينسَى كيف كان قويًا ، يلتجيء فورًا إلى من هو أقوى منه ، إلى من بيده أمره .
الليلة الأخيرة التي قضيتها في المشفَى ، الليلة الأخيرة التي سمعتُ فيها أنين الخالة خديجة – رحمها الله – تلك الليلة التي شعرتُ فيها بأن المكان يضيق ، وبأن صبري يكادُ ينفد ، ذلك الممر الهاديء ، تتابع الممرضات نحوي محاولين تهدئتي ، كنتُ أريد الخروج ، لم أستطع النّوم ليلةً أخرى في المشفى ، لم أكن أعلم سبب هذا الضيق .
لكنّي الآن عرفت ، إنه الحزن ، أن تجاور مريضًا لا علاقة لك به ، فلا تسمعُ منه إلا الأنين والدعاء ، عندمَا يُصبح نومي مع نومها ، واستيقاظي على صوت أنينها وتوجعها ، فحتمًا سيُصيبُ داء الحزن قلبي ، كنتُ أدعو لي ولها ، ولكن حين أتذكر أن الله لا ينسى عباده ، أن الله رحيم بعباده ، ورحمته العظيمة وسعت كل شيء يطمئن قلبي ..
رحلت الخالة خديجة بعدَ أن صارعت المرَض ، بعدَ أن بكيتُ لبكائها وتألّمت لألمها ، رحلت إلى الذي هو أرحم بها منّا ، رحلت إلى من رحمته وسعت كل شيء سبحانه .
في آخر يومٍ لي في المشفى ، عندما كان الطبيب يحدثني عن اجراءات الخروج ، سمعتها تصرخ : طلّعوووني .. طلّعووني !
بالكاد تمالكتُ نفسي من البكَاء ، كنتُ فرحةً لأنني سأغادر المشفى ، ولكن حزييينةٌ جدًا لحالها ، وعزائي الوحيد أن لها ربّ رحيم هو معها ، يلطف بها ويرحمهَا ، مررتُ عليها ، ودعتُ ابنتها التي رُسِم الحزن في ملامحها ، ودعوتُ للخالة خديجة ( رحمها الله ).
كانت في أضعفِ حالاتها لدرجة أنها لا تستطيعُ النظر إليّ من شدة الألم .
لم أستطع نسيانها ، كلّما وضعتُ رأسي على وسادتي لأنام جاءني صوتها ، فلا أتمالك نفسي من البكاء .
الحمدلله على ألطافه وأقداره ، رحمها بأن قبضَ روحها ورفعهَا إليه أسأل الله أن يجعل الجنّة نزلها ، ورحمنِي بأن رزقني فرصةً للحياة ، وأخرجني ممّا كنتُ فيه ، ما أعظمه من ربّ ، سبحانه .
أسأل الله أن يرحمها برحمته الواسعة ، وأن يجعل ما أصابها تكفيرًا لها ، وأن يجعل قبرها روضةً من رياض الجنة ، ويغفر لها ويرحمها ويكرم نزلها ، ويجعلها ممن يدخلون الجنّة بغير حساب ولا سابقة عذاب ، إنه وليّ ذلك والقادر عليه .