عن الوعي بالذات ومعرفة النفس

الوعي الذاتي

لا شك بأن من أعظم وأندر النعم التي يُرزقها المرء أن يرزق معرفة نفسه، أن يكون على وعي تام بذاته، بتأثير الحوادث والأشياء عليه، بالاستماع إلى صوته الداخلي -الحدس- باختيار اللائق وترك مالا يليق، قد يقع الانسان في فخ الهوى والرغبة، ويطارد أمرًا لا يليق به، ولكن عودته للطريق الصحيح هو المهم.

لن يتمكن الانسان معرفة نفسه، والوعي بذاته إلا بالتجارب، التجارب تكشف مكنونات النفس الانسانية، تكشف نقاط القوة ونقاط الضعف، وخصوصًا التجارب العاطفية، تلك التجارب تعكس الكم الهائل الدفين في العقل اللاواعي داخل الانسان، فتظهر معضلات شتى، تظهر ردود أفعال ماكان يعلم بها المرء، تظهر صفات وطباع عديدة، يستطيع الانسان معرفة الكثير عن نفسه، إن كان على وعي تام بما يحدث، وفي هذه المواقف تظهر أهمية “الوعي الذاتي”، أن يعي بأن ما يمر به على الأغلب هو نتاج حوادث ومواقف خُزنت في عقله الباطن أثناء طفولته، ثم تلك الصدمات التي تعرض لها في فترة المراهقة، ثم الخيبات والخذلان الذي مر به في شبابه، كل موقف يترك أثرًا في نفسه، فيظهر ذلك الأثر لاحقًا على هيئة ردود أفعال ينكرها المرء، أو يتهرب منها.

الوعي بالذات يجعلك تدرك تمامًا إلى أين تقودك الأفكار والعواطف التي تتعرض لها، استمعت قبل فترة ليست بالقصيرة لمقطع مسجل يتحدث فيه ذلك الشخص عن هذا الأمر وعلقت بذهني الخطوات التي تم سردها ليصل المرء إلى فهم نفسه:

  • الملاحظة الواعية للنفس: أن ينتبه الشخص إلى تعامله مع الخارج، مع الآخرين والأشخاص من حوله، أن يكون شديد الملاحظة والدقة للكلمات والأفعال، لردود الأفعال، والوسيلة الفعالة لتحقيق ذلك هي الكتابة، الكتابة بشكل يومي ومستمر وتكون على نوعين:

كتابة وصفية: بأن يكتب الحدث، أن يكتب ما يشعر بأنه مهمًا بالنسبة له من الوقائع والمشاعر والأفكار التي ارتبطت بالنفس، يصف التفاصيل المتعلقة بالحدث.

ثمّ الكتابة التحليلية: يقوم بتحليل الأمر، أن يعلق على الأمر ويكتب رأيه فيما حدث، أن يتناول الأمر من عدة جوانب، يكتب تأثير الحدث على نفسه.

  • التجربة المقصودة: أن يقوم بعمل شيء يختبر فيه نفسه، أن يجرب نفسه وذلك بوضعها داخل تجربة جديدة، فتظهر من خلال تلك التجربة حقائق عن الذات ما كانت ستظهر لولا وجوده فيها، وهنا تظهر العديد من الصفات الشخصية (الخوف، الشجاعة، الجبن، المروءة، الحلم، الصبر…الخ) قد تظهر أيضًا صفات غير محمودة، مثل: الغضب، قلة الصبر، إساءة الظن بالآخرين، الحسد، الغيرة، وغيرها، لن ينتبه لها الشخص مالم يكُن قاصدًا تلك التجربة، وتحليله ووعيه الكامل بتفاصيل الأمور، عندها سيلاحظ وسيعترف ويقر بوجود تلك الحقائق عن نفسه.
  • النظر في شأن النفس: أن تكون تلك عادة ملازمة للشخص بأن يخصص وقتًا لنفسه، ينظر في شأن نفسه، يعطها الحق والأولوية ويمنحها حظًا من التأمل والتفكير والاسترخاء والملاحظة الواعية لحقيقة المرحلة التي يمر بها، وتأثير تلك المرحلة على ذاته.
  • استنطاق الأصدقاء الصادقين واستنصاحهم في أن يكونوا مرآة للنفس: يجب أن يكون هنالك ذلك الصديق المقرب الذي لديه مخزونًا من العلم والفهم والشفافية المطلقة، يبدي لك سيئاتٍ في نفسك، ويحثك على تهذيب طباعك، ويبرز لك حسناتك ويذكرك بضرورة الحفاظ عليها واستبقائها، يقدم لك النصح والمشورة متى ما احتجت إليها، إن لم يكن لك ذلك الصديق فقد حرمتَ فضلًا عظيما، ابحث عنه وفتش عليه، واكسب الأصدقاء الصادقين النصوحين الأخيار، قد لا يحتاج البحث عناءً، فقد يكون ذلك الصديق هو أحد أفراد عائلتك، والدتك أو والدك أو أحد إخوتك. ونصيحتي اختر من الأخلاء أخير الناس، لا تصاحب بذيء اللسان، سيء الخلق والطبع، فإن ذلك ولابد سيترك أثره السيء عليك، 

قال علقمة العطاردي (في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة): يابني، إن عرضت لك حاجة، فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، أي: حفظك، وإن قعد بك مانَك أي: حمل مؤونتك، اصحب من إذا مددت يدك لخير مدها، وإن رأى منك حسنةً عدها، وإن رأى سيئةً سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك، وإن نزلت بك نازلة واساك؛ (أي جعلك كنفسه)، اصحب من إذا قلت صدّق قولك، وإن حاولت أمرًا آمرك، وإن تنازعتما آثرك.

  • تعريض النفس لمعايير وقيم ومبادئ منفصلة عنها: مؤخرًا أصبحت أواجه في حياتي أشخاصًا من مجتمعات مختلفة، وبعيدة تمام البعد عن مجتمعي، لم أعتقد يومًا بأنني سأندمج أو أكون بهذا القرب منهم، كان من الصعب علي في بداية الأمر تقبل أن أكون جزءًا من تلك البيئة أو ذلك المجتمع، ومع الوقت ظهرت لي العديد من الأمور والحقائق، شعرتُ بأني خرجت من دائرتي الصغيرة تلك إلى داِئرة أكبر، بأني أصبحت على فهم وتقبل لمختلف المجتمعات، بأن تلك التجربة مكنتني من فهم أوسع، لم تعد العنصرية أو الانتماء لمجتمع واحد دونًا عن غيره معضلةً كبيرة، وإن لم أتخلص منها بشكل كامل ولكن على الأقل أصبحت أكثر تقبلًا وتعاطيًا مع الآخرين، عندما تجاوزت شوطًا كبيرًا من الرفض، وصلت لمرحلة التقبل، ومع تتالي التجارب أصبحت كل تجربة تأتي آكدةً لما قبلها، ولكن الوعي بالأمر، والتعرض لموقف يصارع الفكرة السابقة ويغرس قيمًا جديدة بالنفس ساعد كثيرًا في استدراك الأمر ومعالجته.

وهذه المواقف تجعل الشخص يخرج إلى الوسيلة الخامسة ألا وهي:

  • ضرورة قبول ضعف هذه النفس البشرية: النفس البشرية بطبيعتها ليست مستقلة ولا معصومة ولا مستقيمة، بل هي معرضة للنقص والخطأ والظلم، لذلك علم الله مافي أنفسنا، وعلم الضعف الموجود في النفس، فجعل باب التوبة مفتوحًا، وأخبرنا بأنه يقبل كلّ من يُقبل عليه، وأنه لا يرد توبة، بل حثنا على الرجوع الدائم إليه مهما كثرت الزلات والعثرات والأخطاء والذنوب، فإنه يعفو ويصفح، يقول عزّ وجل: “ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم”، يأتي هذا النداء مطبطبًا مواسيًا للنفس التي أثقلها الهمّ والخطيئة، إن كان الله جل جلاله علم نقص نفسك وقبلك ويقبلك مادامت الروح في الجسد، فلماذا لا تقبل أنت هذا الضعف، لماذا تتعامل مع نفسك بكل هذه القسوة، والصراع الدائم، كُن أكثر هدوءًا في تعاملك مع ذاتك، سامح واصفح، كلّنا نبحث عن المبادئ والقيم العليا، وكلنا في صراع لنصل إلى الصورة الأمثل لذواتنا، والدرجة العليا من الرضا، ولكن البعض إن لم يصل إلى تلك الدرجة يدخل في صراع وإحباط وشتات فلا يستطيع فهم نفسه، سنجد بأن القرآن والسنة وأقوال العلماء كلها تحث المرء على معالجة النفس، ومجاهدتها، والإقرار بحقيقة ضعفها.
  • التجربة الطويلة في الحياة: كلنا عرضةً لتجارب طويلة ومعقدة في حياتنا، وجودك في تلك التجارب يوصلك لمرحلة من النضج والوعي الكافي عن النفس وعن الحياة.
  • دوام تزكية النفس ومحاسبتها: قال تعالى: “وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى” كلنا عرضة في لحظات الضعف للهوى، فنجد أننا انجرفنا مع موجة عارمة، وفقدنا السيطرة على أنفسنا، فنغرق ونظل في جهاد حتى ننجو من تلك الفتنة. الوقوف الدائم مع النفس ومحاسبتها أمر يدل على أنه لا يزال في القلب حياة، أن نقف بين النفس وبين الهوى فنمنعها، فالانسان الذي يتخذ إلهه هواه لا يمكنه التعرف على نفسه، فتذوب النفس وتذوب الشخصية، وتصبح تلك النفس سائحة لا قرار لها ولا خيار، وفي هذا التنازع بين النفس وبين الهوى يحصل تعرف الانسان على نفسه، وفي هذه المواقف عندما يختار الانسان الرجوع إلى طريق الصواب، والإمساك بزمام النفس يحصل التعرف على النفس، ويبدأ عندها العلاج.

يقول علي بن أبي طالب: ” إن أقوى الناس من قوي على نفسه”.

الوعي بالذات، والتزكية الدائمة للنفس، تمنح المرء القوة والدافع للعدول عن الخطأ، والعودة إلى الصواب، ولا يتم ذلك لأي إنسان إلّا بتوفيق من الله، وبالرغبة الصادقة والحقيقية، والدعاء الدائم، والجهاد المستمر، فإن ذلك توفيقٌ منه وفضل ومنّه.

العلاقات السامة وما يمكنها أن تفعل بك.

العلاقات السامة تستهلك وتستنفد طاقة الشخص فيفقد شغفه وطموحه، وقد يؤدي به إلى التقصير والفشل في الجوانب الأخرى من حياته، حيث أنها تفقده توازنه، فالعلاقة السامة تتطلّب من الشخص فوق قدراته وإمكانياته، تمتصه وتمتص طاقته، قد يدخل أثناءها في مرحلة اكتئاب وهو لا يعلم، قد يعتقد بأن هذه العلاقة تملأ حياته حيث لا يصبح هنالك مكان لأشياء أخرى، ولكنها على العكس تُفقده حياته، والفرق بين العلاقة الصحية والعلاقة السامة أن الأولى تمنح الشخص الطاقة للإبداع والعطاء في الجوانب الأخرى، فتصبح علاقته بأهله وأصدقائه والمحيطين به علاقة جيدة، تحسّن من مستوى تواصله مع الآخرين، تحسّن من إقباله على الحياة، تبرز في شخصيته جوانب رائعة ما كان يعلم بوجودها، تساعده على تجاوز المواقف الصعبة، تدعمه في لحظات ضعفه، تقوّيه، تمنحه رؤية جيدة متفائلة عن الحياة. على العكس تمامًا ما تفعله العلاقة السامة، تجعل الشخص يعيش في حالة من القلق والخوف وعدم الشعور بالأمان، تفاقم من شعور الألم في لحظاته الصعبة، تجعله مقيدًا وعاجزًا عن التقدم في أي أمر من أمور الحياة، تؤدي إلى سوء حالته الصحية والجسدية، تفقده ثقته بنفسه وبالمحيطين به، يشعر بعدم استحقاقيته للأفضل، يبدأ سلوكًا مقاومًا وقد يكون عدائيًا في أحيان أخرى لمقاومة تلك الأفكار السيئة التي تهاجم عقله وتفكيره، قد لا يدرك الشخص أنه في علاقة سامّة لأنه تحت تأثيرها، مكبّلًا بالأفكار التي يزرعها الآخر في عقله، لذلك هو يحاول المقاومة، ولكن شعورًا بالعجز يقيّد رغبته في المقاومة. ودائمًا ما أصف تلك العلاقة بـ “المأزق”، تخيّل أنك في مأزق حقًا ولا تعلم كيف تتصرف وكيف تخرج منه، إنّها حالة حرجة وقد تتطلب غالبًا تدخلًا خارجيًا، ومساعدة خارجية.

فالعلاقة السامة هي أي علاقة بين شخصين لا يحصل أي منها على الدعم من الآخر، مع وجود صراع وخلاف دائم بين الطرفين، ومحاولة أحدهما على السيطرة وتحطيم الآخر، وهي علاقة هشّة تحوي تنافسية عالية بين الأطراف وتقليل من احترام الآخر سواء أمام نفسه أو أمام الآخرين.
فالعلاقة السّامة قد تكون مؤذية عقليًا، عاطفيًا، وجسديًا، فليس من الضروري أن تكون تلك العلاقة عاطفية بين شريكين، قد تكون علاقة صداقة، أو علاقة أسرية.

مسببات العلاقة السّامة:
قد تكون بسبب التعرض للتنمر في الطفولة مما يصنع شخصًا لديه شخصية مضطربة، خائفة من تكرار ما حدث في الطفولة، فيمارس سلوكًا هجوميًّا في محاولة للدفاع عن نفسه مما قد يحدث نتيجة الأثر الذي خلّفته تجارب الطفولة، أو قد يكون بسبب عدم حصوله على الدعم الكافي أثناء نشأته بسبب تشتت الأسرة أو فقدان أحد الوالدين وعدم حصوله على العاطفة والحنان الكافي والذي يشعره بالأمان العاطفي، أو بسبب خوضه علاقة سامة مسبقًا، أو يكون بسبب تشخيصه بأحد الأمراض النفسية كاضطراب ثنائي القطب، أو اضطراب الشهية، أو أي نوع من الاضطرابات العقلية والنفسية والصدمات التي تعرض لها في حياته والتي لم تعالج بشكل صحيح وكامل أو لم يتم تشخصيها بشكل صحيح، أو قد تكون بسبب عدم التكافؤ في العلاقة، على سبيل المثال: تكون الشخصيتان ترغبان في السيطرة بشكل كامل مما يؤدي إلى خلق نزاعات وخلافات دائمة بين الطرفين، أو يكون بسبب وجود تصورات وتوقعات مسبقة عن الاخر، وعدم تقبّل اختلافه، مما يؤدي إلى مطالبات ومحاولات في جعل الآخر يتطابق مع الصورة المتوقّعة مسبقًا.

أهم العلامات التي تدل على وجودك في علاقة سامّة:
بالنسبة لي أحد أهم العلامات التي تدلّ على أنك في علاقة سامة وأبرزها هو الشعور الدائم بعدم السعادة وفقدان المتعة على العكس من ذلك تشعر بأنك دائم الغضب والحزن والقلق، وبأنك تحت سيطرة العديد من الأفكار، ولا يمكنك الاسترخاء أو الاستمتاع باللحظة الحالية، بالإضافة إلى اضطرابات النوم إمّا أرق شديد وذلك بسبب التفكير الزائد وعدم قدرة العقل على الاسترخاء والراحة وإما نوم لساعات طويلة وذلك في محاولة الهرب من الأفكار والأحداث اليومية، اضطرابات الشهية إما فقدانها أو زيادتها، الشعور الدّائم بالتعب وكأنك في معركة طاحنة مع نفسك والآخرين، الشعور بالوهن وتعدد الأمراض مجهولة السبب أو التشخيص “كقرحة المعدة، القولون، المرارة، اضطرابات الجهاز الهضمي…الخ” ، الشعور بعدم القدرة على التعبير أو الحديث بشكل واضح وبصوتك وقناعاتك مع نفسك أو مع الآخرين وكأن جزءًا من ذاتك مفقود.

مالذي يجب فعله في حال كنت في علاقة سامة:
ينبغي اتخاذ خطوة جادة لتحسين الأمر، أول تلك الخطوات هي استشارة طرف خارجي ومحايد، الرغبة الجادة في تحسين الوضع والخروج من ذلك “المأزق”، قد لا يعني ذلك الخروج من العلاقة، فبعض العلاقات السامة لا يستطيع المرء التخلص منها والخروج منها ومن ذلك أن تكون تلك العلاقة علاقة أسرية، ولكن ينبغي للشخص الخروج من “تأثيرها عليه”، وذلك بتغيير طريقة تفكيره، تقبله وتعاطيه في العلاقة، في حال كانت تلك العلاقة مع أحد الوالدين على المرء تذكر أفضليتهما أولًا، حقوقهما وواجباتها، ولكن في الوقت ذاته الوعي الكامل بحقيقة تلك العلاقة حتى لا تتمكن من التأثير فيه، أن يحاول بالاستعانة بخبير أو أخصائي أو مرشد أسري بتفسير جميع الأسباب المؤدية إلى تلك التصرفات المؤذية، أن يفهم دوافعهما الحقيقية، ففي أحيان أخرى قد تكون بدافع “الحب والخوف” الغير مفهوم من قبل الوالدين وذلك بسبب ظروف تربيتهما وتنشئتهما، قد يكون بسبب جميع الأسباب المذكورة سابقًا وهي وجود الوالدين في علاقة سامة مع بعضهما أو مع أبويهما في طفولتهما مما أدّى بهما إلى عكس جميع تلك التصرفات على الأبناء.

في حال كانت العلاقة السامة عاطفية، فبعد بذل جميع الأسباب والمحاولات لتسوية وتحسين العلاقة مع عدم الجدوى، فالأفضل الخروج من تلك العلاقة المؤذية، التخلص من رواسبها، ولكن لا تكون تلك الخطوة إلّا بعد الصبر، واستنفاد جميع محاولات الإصلاح، وقبل ذلك الرغبة الصادقة والنية الصادقة في الإصلاح وتذكر “إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم” ومن ذلك البدء بالنفس أولًا ثم بالآخر، ففي أحيان كثيرة عندمَا يبدأ المرء بنفسه لتغييرها وتحسينها بما يرضيه أولًا قبل أن يرضي الطرف الثاني فإن العلاقة تبدأ بالتحسن والازدهار مجدّدًا. ولكن في حال كانت السميّة سارية بحيث تصل بالمرء إلى سوء حاله فإن علاجها البتر والقطع.

أما في حال كانت العلاقة صداقة، فلست من مؤيدي قطع العلاقة بشكل كامل، بل إبقاء سبل الوصل والودّ مفتوحة، ولكن مع التقليل من الاحتكاك بشكل تدريجي وذلك لتقليل تأثير العلاقة المؤذي على النفس، مع الوعي الكامل بحقيقة العلاقة، وفهم الدوافع والأسباب التي تجعل الآخر يمارس سلوكًا مؤذيًا تجاه صديقه، المصارحة والحوار والنقاش في حال كانت هنالك استجابة، وتجنب الصدام في حال كانت الشخصية حديّة ولا يمكن التعاطي معها، أمّا إن تفاقم الأذى وأصبح غير محتمل فالأفضل إنهاء العلاقة لأنها خرجت من تصنيف الصداقة.

اكتئاب مابعد انتهاء العلاقة السّامة:
تذكّر لا أحد يمشي في النار دون أن يحترق، وتلك أحد الآثار التي ستحاول علاجها بعد خروجك من تلك العلاقة المؤذية، إذا ما كنت معطاءًا بشكل كبير، وأحببت بصدق، وحاولت بجهدك كلّه لإنجاح هذه العلاقة، ولكن أثناء تلك الرحلة وجدت نفسك تتآكل، وتحترق، وتنطفئ، أو تذوب وتتلاشى وتترمّد، فما أن تقرّر الخروج من تلك العلاقة حتّى تجد نفسك تستدعي قوى كامنة بداخلك، تستجلب طاقتك كلها، قوّتك النّائمة لمحاولة الخروج، قد يكون الجهد أضعاف الجهد الذي بذلته أثناء العلاقة، قد تكون معتادًا على الأذى، ولكنك لستَ معتادًا على هذه المرحلة الجديدة “الخالية من الآخر”، لذلك أنت بحاجة إلى التفكير مليًا فيما بعد العلاقة، لا تخرج فجأة، لا تخرج وأنت غير مستعد، ابدأ في دراسة القرار، ابدأ في النظر إلى الأمور من زاوية أخرى، اصنع سيناريو الحياة بدون الآخر، تأقلم مع كل الاحتمالات، ابدأ بالابتعاد بشكل تدريجي، إذا كنت دائم الاحتكاك بشكل يومي فابدأ بتقليل الاحتكاك أو التواصل، ابدأ بممارسة هواية جديدة، عملًا جديدًا، القراءة أحد الطرق والعلاج الفعّال في مثل هذه الأوقات، استمع لحاجتك ولبّيها، إذا كانت حاجتك للاختلاء ملحّة فلا تكبتها، أنت بحاجة للعودة إلى ذاتك، أما إذا كانت حاجتك للبقاء مع الآخرين، الخروج للمجتمع والاندماج فيه فلا تكبت تلك الحاجة.
تحدث عن مشاعرك مع المقرّبين، لا بأس في البكاء، متى ما شعرت بالحاجة إلى ذلك فدع لنفسك المجال لإخراج ذلك الشعور، ابدأ روتينًا جديدًا مختلفًا عن الذي كنت تمارسه أثناء العلاقة.
سيكون من الغريب أن أخبرك بأن أثمن وأجمل اللحظات هي لحظات الاستشفاء بعد تلك العلاقة، إنها الرحلة للعودة إلى ذاتك، لبناء ذاتك من جديد، الاستماع إلى صوتك، فعل ماترغب به أنت، تبدأ في تقبل ذاتك الحقيقية والتي لاقت رفضًا من الآخر، تحبّها عوضًا عن الآخر، أنت أخرجت الآخر وقبلت ذاتك رغمًا عنه وعن أولئك الذي لم يحبّوك لما أنتَ عليه ولم يقبلوك، وهنا لا أقصد أن تقبل أخطاءك التي من الممكن إصلاحها، لا أن تقبل حماقاتك، لا أن تقبل تصرفاتك الخاطئة، ولكن أن تقبل شخصيتك التي من المستحيل تغييرها، تقبل جسدك بعيوبه التي لا يمكن تغييرها، تقبل كل الأشياء التي منحك الله إياها ولم تخترها ولم يمنحك الله القدرة على تغييرها، وعند تلك اللحظة سأخبرك بأنك ستبدأ باحترام نفسك لأنك لم تقبل أن تُهان، فالمرء خلقَ عزيزًا، لم يقبل الله عليه المهانة فلِمَ يقبلها هو على نفسه!؟

تذكر بأنك تستحق أن تحيَا عزيزًا كريمًا مُحبًّا ومحبوبًا، أحيانًا قد يكون من الأفضل أن تنهي شيئًا سيئًا حتى تبدأ آخر جيد، فتلك العلاقة قد تكون الطقس الذي يمنع الغيمة من أن تمطر، وما إن ينتهي ذلك الطقس حتى تمطر السماء، وتنبت الأرض، تقبّل حقيقة أن تلك العلاقة مؤذية وسامة، قبولك لتلك الحقيقة سيمكنك من تقبل الخسارة والتعامل معها بطريقة سليمة، لا تنتظر منهم اعتذارًا أو عودة، اقلب الصفحة أو مزقها، لكن لا تُعد فتحها، لا تعد إليها لتقرأها أو لتراجعها، وهنا أذكرك بأهمية تلك الخطوة قبل إنهاء العلاقة أن تكون قد درست وراجعت القرار مرارًا وتكرارًا لأنك حين تمضي فيه فلا سبيل للعودة.
تلك العلاقة قد تكون قد سبّبت لك الإدمان، عالج ذلك الإدمان بأن تعيش شعورًا غامرًا يشبهه، كأن تنجز أمرًا عظيمًا، الإنجاز يمنحك شعورًا يملؤك بالرضا، لذته تفوق كل لذّة، انجز أمورًا لطالما رغبت بانجازها، إكمال دراسة، أو تعلم شيء جديد، النجاح في مهمّة، هنالك صور كثيرة للانجاز، عِش مغامرةً جديدة، اكتشف جماليّات الحياة، ستكتشف بأن العالم أوسع بكثير من تلك المساحة الضيقة التي كنت محتكرًا فيها.

ختامًا شكرًا للصديقة المُلهمّة التي ألهمتني لكتابة هذه التدوينة، ممتنة.

معجزة الفنّ!

عندما تتضارب المعاني والأفكار داخل رأسك، وتشعر بالتشويش وبأنك غير قادر على الفصل بينها أو تحليل كل منها على حدة، أو على الأبسط من ذلك التعرّف على كل واحدة ومصدرها وسلسلة الأفكار الكامنة خلفها؛ ف “اكتب”.
اكتب تلك الأفكار، أخرجها من رأسك واجعلها مطروحةً أمامك، انظر إلى كلّ واحدة منها، وتحدث معها، قلّبها ذات اليمين وذات الشمال حتى تتعرف عليها. أخرج أفكارك من رأسك يا صاح، دعها تنطرح أمامك، تتقافز محاولةً جذب انتباهك، سيظهر المتشابه منها والمُتناقض، ستتعارك الأفكار المتناقضة داخل رأسك مسبّبةً لك الأذى، لن تستطيع النّوم أو الأكل حتى تنفضها خارج رأسك.
فأنت حين تخرجها من رأسك فإنّها ستتعارك أمامك، وحين تجلب طرفًا ثالثًا ورابعًا وخامسًا للفصل بينها فإن المعركة ستنتهي أخيرًا.

حدث مرةً أن قذف أحدهم الحصى في نهر عقلي الرّاكد، محدثًا أمواج كثيرة، حدث حوارٌ غريبٌ من نوعه، جالبًا معه موجةً من الشكّ، كُنت قد سئلت قبل ذلك، “هل اعتراك يومًا شكٌ نحو أيٍّ من العقائد أو القيم التي تؤمنين بها!” أجبتُ حينها “قطعًا لا!”
لم أعرف الشكّ أبدًا وأتمنى أن لا أعرف شكًّا يزعزعُ يقيني، ولكن ذلك الحوار أيقظَ تساؤلات عدة، تساؤلات تكمن خلف حقيقة الأشياء، حقيقة الاعتقادات، حقيقة الأفكار، وحقيقة الممارسات، علمتُ حينها بأنه كلّما اتسعت دائرة معارفك، كلما خرجت إلى العالم الواسع، فإنك ولابدّ ستواجه أمواجًا عارمة وعواصف شديدة، مالم تكن ذا معرفة، مالم ترعَ إيمانك، مالم تُغذّي يقينك، مالم تغرس جذورك؛ فإن اقتلاعك سيكون سهلًا، ولا تخفى أهمية أن يكون لك رفيقٌ في الحياة تأمنهُ على أفكارك، تثق به وتُفضي إليه بخلجات نفسك، بشكّك قبل يقينك، بأخطائك وهفواتك، بكلّ صغيرة وكبيرة ليصحّح لك مسارك، رفيقٌ لا يكون الحوار معه طلبًا للجواب بقدر ما يكون مشاركةً لما يجول في الوجدان، وإفضاءً بما يحرّك الخوف ويوقظ وحش القلق.
وتذكرتُ قصة إبراهيم -عليه السّلام- في قوله تعالى:”ربّ أرني كيف تحيي الموتى، قال أولَم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي”، ذلك الشكّ الذي يحرك رغبتك في أن تلتحفَ إيمانك، أن تتدفّأ بيقينك، وأن تتوسد طمأنينتك.
علمتُ حينها بأن التساؤل ليس مخيفًا، كلّنا نتساءل، لا يتساءل إلّا شخصٌ متعطّش للحقيقة، ولكن بماذا ملأنا أوعيتنا أولًا، مالم تعمل جاهدًا على مِلئها بالحقيقة، فإنّها ستكون فارغة وسيأتي أيُّ عابرٍ يملأها بما يريد، وكلّ إناء بما فيه ينضح، تخيّر مصادرك، ولا ترضَ بما دون الحقيقة، لا تعش في الشكّ ولا تجعل تساؤلاتك مكشوفه، طبطب جراح القلب قبل أن يتعفّن.
هنالك أفكار من غير الممكن تعريتها أمام أحد، إنما في كتابتها وتفصيلها وتحليلها فائدة جليّة، لذلك أجد أن الكتابة ضرورة من ضروريات الحياة، تكتب لتفكر بطريقة واضحة، لتفهم المشهد أكثر، ولتستطيع الاستماع إلى أفكارك وخواطرك بطريقة محايدة.
ممارسة الكتابة كفنّ، وكتعبير عن خلجات النّفس والأفكار، وكل ما يعتري ذات الانسان المتعطش هي محاولة للتفاعل والتناغم والانسجام مع العالم، فالفنّان يعبر عن مكنونات نفسه من خلال فنّه، إنّه يذهب في رحلة نحو ذاته ويأخذ الآخرين معه في تلك الرحلة.
فالشّاعر عندما يكتب قصيدة فإنه يخرج الكثير مما في نفسه على هيئة قصيدة، هنالك روح تكمن خلف الشعر، ولذلك يُضرب المثل التقليدي المعروف “المعنى في بطن الشاعر”، هنالك معنًى تخمّر في جوف الشاعر وفي نفسه وعقله ووجدانه، عندمَا يكتب الشّاعر بكلّ احساس وصدق فإن الجمهور سيشعر بذلك المعنى. الرسّام حين يرسم هو لا يصرّح بالفكرة، لا يصرّح بكل معنى في اللوحة، هو يرسم ما بداخله، فنتذوّق نحن من خلال تلك اللوحة الصّامتة آلاف المعاني، وذلك هو الفنّ. 

حتى تفهم عملًا فنيًّا افهم الفنّان، وأجد أن علاقتي بالكاتب وكتابه مُقترنة ببعضها البعض ولا يمكن فصلها، فأجدني أبحث عن حياة الكاتب الحقيقية عن سيرته، عن صراعاته، عن بيئته عن كلّ ما يخصّه عندما أُعجب بأحد أعماله، وحين يستعصى فهم عملٍ فنيّ فإني أفهم الفنّان أولًا ثمّ يستسهل عليّ فهم عمله.

يقول بيكاسو: ” ليس المهمّ ماعمله الرسام، وإنما الأهم الرسام نفسه من هو”

كثيرًا ما تأسرني المشاهد الصّامتة في الأفلام، أحبّ أن أراقب إبداع الممثل في إيصال معاني نفس الشخصية من خلال صمته، حين يعبّر عن قلقه، خوفه، ترقّبه، شوقه، حزنه، اكتئابه، جميع المشاعر في مشهد صامت، هنا يتجلّى الفنّ، لذلك ينطوي الفنّ دائمًا على المعاني الكامنة خلفه، ولذلك لا نستطيع أن نشرح الفنّ، ولا نفصّله، ولا نطرحُه كمادة علمية، إنّنا نتذوّقه، ونصل إلى معانيه التي اتصلت بها أنفسنا، وكل فرد قد يصل إلى معنى مُختلف عن المعنى الذي وصل إليه الآخر، وهنا يكمن جمال الفنّ في أنّه يلامس جزءًا جوانيًا في الإنسان، إنّه تواصل بينَ ذات الفنّان وذات الانسان المتذوق لفنه.

وتناول علي عزّت في الفصل الثالث من كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” الفنّ كظاهرة، فقال: “العلم يسعى إلى اكتشاف القوانين واستخدامها. أما العمل الفنّي، فإنه يعكس النظام الكوني دون أن يستفسر عنه”.

وقال أيضًا موضحًا الفرق بين الفن والعلم:

العلم والفكر يميلان إلى الطرف الآخر المضاد: إلى التجانس، ليكشف دائمًا الشيء المشترك في جميع الموجودات. وينطوي الفن بداهة على الأصيل.. فلا شيء يتكرر، لا صفة ولا موقف، ولا يوجد شيء على مدى الأبدية متماثل ومتطابق مع غيره. هذا الإيمان كامن في طبيعة الفن نفسها، كما أن المماثل والمكرر والمطابق أساسي في الافتراض العلمي.

“الحقيقة الوحيدة التي يعترف بها الفن هي الانسان وشوقه الأبدي لتأكيد ذاته.. لإنقاذ نفسه.. ألّا يضلّ في متاهات هذه “الحقيقة الموضوعية”. كل لوحة هي محاولة مستحيلة “لاستحضار معجزة نسميها شخصية”.. في أعماق كل لوحة فنية شخصية في عالم غريب، والصراع الناجم من هذه العلاقة الأساسية بين الشخصية وهذا العالم. بدون هذا لا وجود للفنّ.”

“العمل الفنيّ بالنسبة للفنان رؤية جوّانية استثارتها المعاناة والتجربة، ليس نتيجة تحليل أو تفكير منطقي.”

فعندما توضع الشروط لانتاج أي عمل فنيّ فإن ذلك العمل لن يكون حقيقيًا، الأمر نفسه ينطبق على الكتابة، عندما تكتب بناء على الطلب، أو تكتب بتحفظ أو تحاول إخفاء جزء من الحقيقة فإن كتابتك ستكون مزيفة، فالإلهام الحقيقي والحرية هما شرطان أساسيان وضروريان لحياة الفن الجوانيّة لأي عمل، كما ذكر علي عزت بيجوفيتش “الفنّان الذي يفتقد الإخلاص يلد عملًا ميتًا لهذا العالم.” وذكر بأن ذاته الموقف مع الصّلاة، فالصلاة بدون روح وبدون حضور جوّاني، إنما هي صلاة فارغة لا معنى لها.

لذلك أرى بأن الفنّ هو جزء من الوجود الحقيقي لذات الانسان، وارتباط العالم الجواني الحقيقي بالعالم الخارجي هو من خلال الفنّ وحده، في مسيرتنا للتعايش والاندماج مع العالم نحن نحاول بشتى الطرق أن نتشارك أفكارنا، وذلك هو رابطنا مع الاخرين، ولكن من خلال الفنّ فإن جميع الحواجز تُزال، لذلك الحرية هي أحد مبادئ الفنّ، وهي أساس من أساسيات اكتماله وتأثيره تأثيرًا حقيقيًّا.

الفرق بين الكتابة العادية والكتابة الإبداعية، بأن الكتابة الإبداعية هي محاولة إيصال الفكرة بطريقة غير مباشرة، وأجد الكاتب عندما يوصل المعنى بطريقة غير المباشرة فهو يمارس فنا وعملًا مبتكرًا إبداعيًا، بمعني أدق أن يكون المحتوى مخاطبًا للروح والنفس والقلب قبل العقل. 
فالعقل يميل إلى تحليل الفكرة ومنطقتها، بعكس الفنّ الذي يصبّ الفكرة بكلّ سلاسة وعذوبةٍ في قلبك، إنّه شيء تشعر به ولا تستطيع شرحه، تشعر به يلمس روحك وكيانك، البعض قد يحلّق به الفنّ عاليًا، البعض قد يُبكيه والبعض قد يُبهجه، إنّه يتغلغل في الجزء الغير ملموس في الانسان.
فالفنّ يدعوك لأن تُشرك قلبك ووجدانك وروحك في عملك، وهو الطريق للوصول إلى لبّ الآخرين ووجدانهم والعالم الداخلي الجوهري فيهم. لذلك حين نريد التعبير عن أي قضية فإننا نلجأ إلى الفنّ، كتابة الرواية الأدبية والقصيدة، انتاج الأفلام والأعمال المرئية رسم اللوحات، الغناء، نجدنا نميل إلى كل ما يخاطب الرّوح والقلب معًا، نؤثر على العقول بلمسة رقيقة دافئة وحانية.
وكلّما تعمّق فهم الانسان لذاته وكيانه وعالمه الجوّاني والداخلي، كلّما ازدادت قدرته على تذوق الفنّ، وقدرته على استخدامه وقدرته أيضًا على إحداث التأثير والتغيير من خلاله، وإن وجد إنسانًا عجزه عن فهم عمل فنّي أو تذوقه أو الاستمتاع به فإن ذلك الانسان عاجز عن فهم العالم الذي بداخله، وتلك مشكلة ومعضلة الانسان في عدم قدرته على اكتشاف المعنى الجميل من كينونته وانسجامه مع العالم البديع.