عندما تتضارب المعاني والأفكار داخل رأسك، وتشعر بالتشويش وبأنك غير قادر على الفصل بينها أو تحليل كل منها على حدة، أو على الأبسط من ذلك التعرّف على كل واحدة ومصدرها وسلسلة الأفكار الكامنة خلفها؛ ف “اكتب”.
اكتب تلك الأفكار، أخرجها من رأسك واجعلها مطروحةً أمامك، انظر إلى كلّ واحدة منها، وتحدث معها، قلّبها ذات اليمين وذات الشمال حتى تتعرف عليها. أخرج أفكارك من رأسك يا صاح، دعها تنطرح أمامك، تتقافز محاولةً جذب انتباهك، سيظهر المتشابه منها والمُتناقض، ستتعارك الأفكار المتناقضة داخل رأسك مسبّبةً لك الأذى، لن تستطيع النّوم أو الأكل حتى تنفضها خارج رأسك.
فأنت حين تخرجها من رأسك فإنّها ستتعارك أمامك، وحين تجلب طرفًا ثالثًا ورابعًا وخامسًا للفصل بينها فإن المعركة ستنتهي أخيرًا.
حدث مرةً أن قذف أحدهم الحصى في نهر عقلي الرّاكد، محدثًا أمواج كثيرة، حدث حوارٌ غريبٌ من نوعه، جالبًا معه موجةً من الشكّ، كُنت قد سئلت قبل ذلك، “هل اعتراك يومًا شكٌ نحو أيٍّ من العقائد أو القيم التي تؤمنين بها!” أجبتُ حينها “قطعًا لا!”
لم أعرف الشكّ أبدًا وأتمنى أن لا أعرف شكًّا يزعزعُ يقيني، ولكن ذلك الحوار أيقظَ تساؤلات عدة، تساؤلات تكمن خلف حقيقة الأشياء، حقيقة الاعتقادات، حقيقة الأفكار، وحقيقة الممارسات، علمتُ حينها بأنه كلّما اتسعت دائرة معارفك، كلما خرجت إلى العالم الواسع، فإنك ولابدّ ستواجه أمواجًا عارمة وعواصف شديدة، مالم تكن ذا معرفة، مالم ترعَ إيمانك، مالم تُغذّي يقينك، مالم تغرس جذورك؛ فإن اقتلاعك سيكون سهلًا، ولا تخفى أهمية أن يكون لك رفيقٌ في الحياة تأمنهُ على أفكارك، تثق به وتُفضي إليه بخلجات نفسك، بشكّك قبل يقينك، بأخطائك وهفواتك، بكلّ صغيرة وكبيرة ليصحّح لك مسارك، رفيقٌ لا يكون الحوار معه طلبًا للجواب بقدر ما يكون مشاركةً لما يجول في الوجدان، وإفضاءً بما يحرّك الخوف ويوقظ وحش القلق.
وتذكرتُ قصة إبراهيم -عليه السّلام- في قوله تعالى:”ربّ أرني كيف تحيي الموتى، قال أولَم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي”، ذلك الشكّ الذي يحرك رغبتك في أن تلتحفَ إيمانك، أن تتدفّأ بيقينك، وأن تتوسد طمأنينتك.
علمتُ حينها بأن التساؤل ليس مخيفًا، كلّنا نتساءل، لا يتساءل إلّا شخصٌ متعطّش للحقيقة، ولكن بماذا ملأنا أوعيتنا أولًا، مالم تعمل جاهدًا على مِلئها بالحقيقة، فإنّها ستكون فارغة وسيأتي أيُّ عابرٍ يملأها بما يريد، وكلّ إناء بما فيه ينضح، تخيّر مصادرك، ولا ترضَ بما دون الحقيقة، لا تعش في الشكّ ولا تجعل تساؤلاتك مكشوفه، طبطب جراح القلب قبل أن يتعفّن.
هنالك أفكار من غير الممكن تعريتها أمام أحد، إنما في كتابتها وتفصيلها وتحليلها فائدة جليّة، لذلك أجد أن الكتابة ضرورة من ضروريات الحياة، تكتب لتفكر بطريقة واضحة، لتفهم المشهد أكثر، ولتستطيع الاستماع إلى أفكارك وخواطرك بطريقة محايدة.
ممارسة الكتابة كفنّ، وكتعبير عن خلجات النّفس والأفكار، وكل ما يعتري ذات الانسان المتعطش هي محاولة للتفاعل والتناغم والانسجام مع العالم، فالفنّان يعبر عن مكنونات نفسه من خلال فنّه، إنّه يذهب في رحلة نحو ذاته ويأخذ الآخرين معه في تلك الرحلة.
فالشّاعر عندما يكتب قصيدة فإنه يخرج الكثير مما في نفسه على هيئة قصيدة، هنالك روح تكمن خلف الشعر، ولذلك يُضرب المثل التقليدي المعروف “المعنى في بطن الشاعر”، هنالك معنًى تخمّر في جوف الشاعر وفي نفسه وعقله ووجدانه، عندمَا يكتب الشّاعر بكلّ احساس وصدق فإن الجمهور سيشعر بذلك المعنى. الرسّام حين يرسم هو لا يصرّح بالفكرة، لا يصرّح بكل معنى في اللوحة، هو يرسم ما بداخله، فنتذوّق نحن من خلال تلك اللوحة الصّامتة آلاف المعاني، وذلك هو الفنّ.
حتى تفهم عملًا فنيًّا افهم الفنّان، وأجد أن علاقتي بالكاتب وكتابه مُقترنة ببعضها البعض ولا يمكن فصلها، فأجدني أبحث عن حياة الكاتب الحقيقية عن سيرته، عن صراعاته، عن بيئته عن كلّ ما يخصّه عندما أُعجب بأحد أعماله، وحين يستعصى فهم عملٍ فنيّ فإني أفهم الفنّان أولًا ثمّ يستسهل عليّ فهم عمله.
يقول بيكاسو: ” ليس المهمّ ماعمله الرسام، وإنما الأهم الرسام نفسه من هو”
كثيرًا ما تأسرني المشاهد الصّامتة في الأفلام، أحبّ أن أراقب إبداع الممثل في إيصال معاني نفس الشخصية من خلال صمته، حين يعبّر عن قلقه، خوفه، ترقّبه، شوقه، حزنه، اكتئابه، جميع المشاعر في مشهد صامت، هنا يتجلّى الفنّ، لذلك ينطوي الفنّ دائمًا على المعاني الكامنة خلفه، ولذلك لا نستطيع أن نشرح الفنّ، ولا نفصّله، ولا نطرحُه كمادة علمية، إنّنا نتذوّقه، ونصل إلى معانيه التي اتصلت بها أنفسنا، وكل فرد قد يصل إلى معنى مُختلف عن المعنى الذي وصل إليه الآخر، وهنا يكمن جمال الفنّ في أنّه يلامس جزءًا جوانيًا في الإنسان، إنّه تواصل بينَ ذات الفنّان وذات الانسان المتذوق لفنه.
وتناول علي عزّت في الفصل الثالث من كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب” الفنّ كظاهرة، فقال: “العلم يسعى إلى اكتشاف القوانين واستخدامها. أما العمل الفنّي، فإنه يعكس النظام الكوني دون أن يستفسر عنه”.
وقال أيضًا موضحًا الفرق بين الفن والعلم:
العلم والفكر يميلان إلى الطرف الآخر المضاد: إلى التجانس، ليكشف دائمًا الشيء المشترك في جميع الموجودات. وينطوي الفن بداهة على الأصيل.. فلا شيء يتكرر، لا صفة ولا موقف، ولا يوجد شيء على مدى الأبدية متماثل ومتطابق مع غيره. هذا الإيمان كامن في طبيعة الفن نفسها، كما أن المماثل والمكرر والمطابق أساسي في الافتراض العلمي.
“الحقيقة الوحيدة التي يعترف بها الفن هي الانسان وشوقه الأبدي لتأكيد ذاته.. لإنقاذ نفسه.. ألّا يضلّ في متاهات هذه “الحقيقة الموضوعية”. كل لوحة هي محاولة مستحيلة “لاستحضار معجزة نسميها شخصية”.. في أعماق كل لوحة فنية شخصية في عالم غريب، والصراع الناجم من هذه العلاقة الأساسية بين الشخصية وهذا العالم. بدون هذا لا وجود للفنّ.”
“العمل الفنيّ بالنسبة للفنان رؤية جوّانية استثارتها المعاناة والتجربة، ليس نتيجة تحليل أو تفكير منطقي.”
فعندما توضع الشروط لانتاج أي عمل فنيّ فإن ذلك العمل لن يكون حقيقيًا، الأمر نفسه ينطبق على الكتابة، عندما تكتب بناء على الطلب، أو تكتب بتحفظ أو تحاول إخفاء جزء من الحقيقة فإن كتابتك ستكون مزيفة، فالإلهام الحقيقي والحرية هما شرطان أساسيان وضروريان لحياة الفن الجوانيّة لأي عمل، كما ذكر علي عزت بيجوفيتش “الفنّان الذي يفتقد الإخلاص يلد عملًا ميتًا لهذا العالم.” وذكر بأن ذاته الموقف مع الصّلاة، فالصلاة بدون روح وبدون حضور جوّاني، إنما هي صلاة فارغة لا معنى لها.
لذلك أرى بأن الفنّ هو جزء من الوجود الحقيقي لذات الانسان، وارتباط العالم الجواني الحقيقي بالعالم الخارجي هو من خلال الفنّ وحده، في مسيرتنا للتعايش والاندماج مع العالم نحن نحاول بشتى الطرق أن نتشارك أفكارنا، وذلك هو رابطنا مع الاخرين، ولكن من خلال الفنّ فإن جميع الحواجز تُزال، لذلك الحرية هي أحد مبادئ الفنّ، وهي أساس من أساسيات اكتماله وتأثيره تأثيرًا حقيقيًّا.
الفرق بين الكتابة العادية والكتابة الإبداعية، بأن الكتابة الإبداعية هي محاولة إيصال الفكرة بطريقة غير مباشرة، وأجد الكاتب عندما يوصل المعنى بطريقة غير المباشرة فهو يمارس فنا وعملًا مبتكرًا إبداعيًا، بمعني أدق أن يكون المحتوى مخاطبًا للروح والنفس والقلب قبل العقل.
فالعقل يميل إلى تحليل الفكرة ومنطقتها، بعكس الفنّ الذي يصبّ الفكرة بكلّ سلاسة وعذوبةٍ في قلبك، إنّه شيء تشعر به ولا تستطيع شرحه، تشعر به يلمس روحك وكيانك، البعض قد يحلّق به الفنّ عاليًا، البعض قد يُبكيه والبعض قد يُبهجه، إنّه يتغلغل في الجزء الغير ملموس في الانسان.
فالفنّ يدعوك لأن تُشرك قلبك ووجدانك وروحك في عملك، وهو الطريق للوصول إلى لبّ الآخرين ووجدانهم والعالم الداخلي الجوهري فيهم. لذلك حين نريد التعبير عن أي قضية فإننا نلجأ إلى الفنّ، كتابة الرواية الأدبية والقصيدة، انتاج الأفلام والأعمال المرئية رسم اللوحات، الغناء، نجدنا نميل إلى كل ما يخاطب الرّوح والقلب معًا، نؤثر على العقول بلمسة رقيقة دافئة وحانية.
وكلّما تعمّق فهم الانسان لذاته وكيانه وعالمه الجوّاني والداخلي، كلّما ازدادت قدرته على تذوق الفنّ، وقدرته على استخدامه وقدرته أيضًا على إحداث التأثير والتغيير من خلاله، وإن وجد إنسانًا عجزه عن فهم عمل فنّي أو تذوقه أو الاستمتاع به فإن ذلك الانسان عاجز عن فهم العالم الذي بداخله، وتلك مشكلة ومعضلة الانسان في عدم قدرته على اكتشاف المعنى الجميل من كينونته وانسجامه مع العالم البديع.