قيمة المرء ما يُحسنه..

7ca595fef959a2431bbe75fb9304b368


في إحدى مقاعد الانتظار انشغلت بمشاهدة أحد مقاطع الفيديو للاتصال الذي تلقاه الشهير -غاري فاينرتشوك- لفتاة في عمر الثانية والعشرون عندما تحدثت عن قلقها في مرحلة ما بعد تخرجها من الجامعة، وشعورها بأن عليها أن تقوم بعمل شيء عظيم.
عندما استمعت إلى المقطع وجدت في داخلي تأييدًا شبه تام لما قاله غاري، ووجدتني أتساءل عن حقيقة الضغط الهائل الذي نراكمه في داخلنا تجاه التزامنا الشديد بأنه يجب علينا القيام بإنجاز عظيم في وقت قصير، كيف أننا نتسابق مع الآخرين في الوصول إلى غاية عظيمة، عظيمة لدرجة أنها تكاد تكون شبه مستحيلة في الوقت الزمني الذي حددناه بطريقة عشوائية! كأن نصبح أثرياء جدًا خلال الخمس سنوات القادمة، لقد أجاب غاري الفتاة عندما قالت عبارة تشبه تلك بأن قولها لتلك العبارة يؤكد له بأنها لن تفعل ذلك، لن تصبح ثرية خلال هذه المدة الزمنية القصيرة إلا بحصولها على معجزة ما!

الاستعجال في النجاح يأتي نتيجة مقارنتنا إنجازاتنا بإنجازات الآخرين مع إغفالنا التام عن مقارنة ظروفنا بظروفهم، الأمر يجب أن يكون منطقيًا حتى نتخفف من ضغوط وأعباء التفكير الزائد الذي قد ينتهي بنا إلى الدخول في حالات من الإحباط عندما نكتشف بأن الوقت الذي حددناه للإنجاز انقضى ولم نقم بالإنجاز المخطط له.
من الأشياء التي يمكن لممارستها أن يحول دون الشعور بالإحباط هي أن نقوم بإنجازات بسيطة على فترات قصيرة ومتفاوتة، نقارن الشخص الذي نحن عليه اليوم بالشخص الذي كنا عليه بالأمس، أن نقارن الحاضر بالماضي من وقت لآخر، أن نشعر بالاحتفاء عندمَا نجد تغيرًا هائلًا ومدهشًا بين الأمس واليوم، بأننا أصبحنا ولو جزءًا يسيرًا من الشخص الذي تمنينا أن نكون عليه، أن نقيس إنجازاتنا بموضوعية، وتعبيري عن الأمس واليوم هو تعبيرًا مجازيًا قد يتضمن قبل شهر وبعده، أو قبل ستة أشهر وبعدها، أو قد يكون قبل سنة سنتين …. إلخ. تلك الإنجازات ستصب في النهاية في نصاب الإنجاز الكبير.

حديث الفتاة وإصرارها لأن تصبح مميزة وذات قيمة وهدف من خلال عمل شيء عظيم في حياتها أخذني إلى منحى آخر في التفكير، إننا نبحث عن قيمة أنفسنا من خلال العمل الذي نقوم به.

يقول الإمام علي -رضي الله عنه-: “قيمة كل امرئ ما يحسنه”

القيمة التي ستضاف لحياة كل منا من خلال عملنا وإنجازنا ونجاحاتنا، القيمة التي توجد عند الإنسان باختلاف وضعه ومكانه وحاجته، قيمة ما يفعله الفرد في مجتمعه، كيف يمكن لكل ذي حِرفة ومهارة أن يُحسن عمله، يجوّده ويتقنه، لتنعكس تلك القيمة على المجتمع، الأهداف التي يضعها الأفراد في حياتهم وعندما نتعمق فيها سنجد أنها في النهاية تؤدي إلى نجاح الدائرة الكبيرة التي تحيط به “المجتمع”.

يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: له حِرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني.”

وتلك هي قيمة المرء، أن لا يكون كسولًا ملولًا، عاطلًا بطّالًا، لا قيمة له ولا عمل. إنه الوقت لأن يطوّر الأفراد مهاراتهم، أن يستثمرونها لمنفعة أنفسهم، ومنفعة المجتمع والأمة.
بعد التأمل العميق خلال الفترة الأخيرة في أهدافي ودوافعي وجدت أنها في النهاية تأتي تحت التساؤل: ماهي القيمة التي سأضيفها للمجتمع من خلال هذا الدور؟
وذلك ما جعلني لا أستطيع الانقطاع عن العمل التطوعي، إن شعوري بأن أكون شخصًا يقدم خدمة تساهم في نهوض مجتمعه هو شعورٌ رائع.

أعتقد بأن الإنسان جُبل في النهاية إلى أن يكون نافعًا بشكل كبير، بغض النظر عمّا يخلّفه هذا الشعور في نفسه من العظمة والسعادة والرضا، ولكن بالتركيز على العمل نجد بأنه طالما أن الإنسان يسعى لفعل شيء نافع وصائب وتحقيق نجاح عظيم في محيطه فذلك يستوجب أن تتاح له سبل الدعم المُختلفة لتحقّق تلك الطاقة إنجازًا هامًّا على أرض الواقع.
لذلك تسعى المجتمعات إلى تمكين الأجيال الجديدة التمكين الصائب، والذي يصب في مصلحتنا جميعًا.

(عن ابن شهاب: لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يبتغي حدة عقولهم).

الشباب هم ثروة المجتمعات، وقمع رؤيتهم، وإخماد شغفهم، وإبطال فاعليتهم، هي أحد الأساليب السامة التي من الممكن أن تعرقل نهوض الأمة، لقد لفتني خلال قراءتي لسيرة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اهتمامه بالشباب، لقد علم يقينًا بأن الحضارة تحتاج دومًا لأن تضخ فيها دماء جديدة. إنه مدعاة للتفاؤل، وواعدٌ بالنهضة أن نكون في عصر يمكّن فيه الشباب ويُمنحون الثقة الكاملة، لبناء الحضارة، فالحضارة تحتاج لأجيال متعاقبة ومتفاوتة، التجدد مطلبٌ أساسي لازدهار المجتمع.
وهكذا تُبنى الأمم..!

 

5 تعليقات على “قيمة المرء ما يُحسنه..”

التعليقات مغلقة.