هل شعرت يومًا بأنك تسير ضمن نطاق حدّده لك شخص ما! وبعدما قطعت مسافةً طويلة صحوت من غفلتك لتكتشف بأنه لم يكن الطريق الذي أردته لنفسك.
هل سألت نفسك: هل أنا ذلك الشخص الذي أطمح أن أكونه؟ هل فعلت كل ما أحبّ فعله حقًّا؟ أم أنني عشت الحياة كرجل آلي برمجهُ الآخرون، وعاش يفعل ما يعتقد أن الآخرين سيعجبون به إن فعل ذلك، متناسيًا رغبته الحقيقة، متناسيًا ما يحبّ وما يكره!
تلك هي التعاسة الحقيقة، أن يمضي عمرك دون أن تفعل شيئًا تحبّه، دون أن تشعر بالحب لما تفعله، أن يكون عطاؤك بناءً على أوامر الآخرين، وليس بناء على رغبة وحب يدفعانك.
هل أطلق عليك شخص مّا حكمًا مسبقًا بأنك لن تبرع في هذا الشيء، ومضيت وكافحت وجاهدت فقط لتثبتَ له أنّك تستطيع! واستطعت، ولكن مع الأسف ليس دافعك الحبّ لفعل ذلك، بل لإثبات أنه على خطأ، ثمّ بعد أن نجحت في إثبات أنه مخطئ توقفت طويلًا، تبعثرت همّتك، وشعرت بأنك ظللت الطريق، لقد أثبت له أنه خاطئ، وماذا بعد؟ ليس هذا ما تريد فعله في أعماقك، أنت قطعت شوطًا طويلًا ولكن في طريقٍ خاطئ! أنت ضللت طريقك إلى ذاتك، وكسرت المصابيح التي تضئ داخلك، إن في داخلك عتمة موحشة، ولا خلاص منها!
(جانيت الفتاة اليافعة في فيلم القلعة الزجاجية The Glass Castle عاشت حياةً ليست مثالية، يتخللها هروبٌ دائم من المباحث الفيدرالية بسبب أسلوب العيش الذي اختارته عائلتها، وهو الأسلوب العشوائي، التنقل والنوم في العراء، والدها الذي يرى بأن قيمة الحرية تكمن في التحرّر من عوائق المدن والحياة المتحضرة، أن العلم والمعرفة توجد في الحياة والطبيعة وليس من الضروري اكتسابها بالتعلم في المدارس والجامعات، ووالدتها الفنانة البوهيمية روزماري التي لم تجد التقدير سوى مع زوجها، أثناء رحلاتهم العشوائية وتنقلاتهم الكثيرة يعلّمها والدها كيف تواجه الحياة بقوة، كيف تحبّ ذاتها وتتقبلها على علّاتها، من خلال حكاياته الخيالية، وأسلوبه السحري في تحويل النقائص والمشاكل إلى مزايا، ففي إحدى المشاهد يصف كيفَ أن سكان الشقق الفاخرة محرومين من الاستلقاء على الأرض وتأمل السماء في الليل قبل النوم، كان يهدي أطفاله النجوم في المناسبات والأعياد، فيجعل لكل واحدٍ منهم نجمًا يختاره ويصبح له، قائلًا: بينما تتلف ألعاب الأطفال الثمينة وتتكسر أنتم ستبقى لكم النجوم لن تتلف وتتغير.
بالرغم من الفوضى والإهمال التي تجدها وإخوتها من والديها، إلّا أن تلك القيم والمعارف التي تعلّمتها أثناء رحلتها الشاقة، وبالرغم من انفصالها مؤخرًا عن عائلتها، واختيارها الحياة الراقية التي تحلم بها، وخجلها الدائم من ذكر والديها أمام الآخرين، تجعلها تلك القيم تستيقظ في نهاية المطاف إلى أن عليها أن تقبل ذاتها كما هي، ليس عليها أن تصبح شخصًا آخر ليحبها الآخرون، اللحظات التي تقاسمتها مع عائلتها المليئة بالحب والمتعة أثمن من أن تخجل منها أو تتنكر لها.
والأجمل في ختام الفيلم ظهور الشخصيات الحقيقية التي جسّد الفيلم قصتهم)
الهروب المتكرر في الفيلم سواء من الذكريات أو من الماضي، أو من اعتقاد الآخرين وتوقعاتهم، جعلني أتأمل كثيرًا في حياتي، هل قراراتي بناء على دافع شخصيّ بحت، أم أن هنالك مراعاة لمشاعر الآخرين!
هل ما أقوم به يُشعرني بالسعادة حقًّا!
هل ما زالت ثابتة على قيمي، وهل أمثّل ذاتي، وهل ما زلت ممسكة بالحبل الذي يوصلني إلى ذاتي كلما سقطت أو تعثرت!
الأوان لم يفُت على شيء، والقيم التي نتعلمها سواء في الصغر، أو في رحلة الحياة، أو من خلال التجارب، هي خلاصة نعلّمها للآخرين، إننا ننظر من الجانب الذي نريد النظر منه، أيًا كانت الحياة التي وصلنا إليها، لابد وأن هنالك تفرعات كثيرة لهذا الطريق، ليس علينا الوقوف، والاستسلام، إن ضللت اختر الطريق الذي يعيدك إلى المسار الصحيح، المسار الذي يوصلك بذاتك، بحلمك، وبأهدافك، وبطموحك.
الخوف من الآخرين هي الآفة والدابة التي تأكل منسأة قوّتك، لترديك ميتًا في النهاية، لا حياة في عينيك، ولا روح في ابتسامتك، لا تخف مما سيقوله الآخرين عنك، حدّد قيمك، اجعلها قوية ومتينة، ثم امضِ في طريقك ولا تتخلّى عنها، كُن قويًا، فالقويّ يحترمه الجميع.
وأساس قوتك أن تكون قيمك ذات صلةٍ بالله، أن تكون روحك موصولةٌ بالله، ذلك هو المصدر الأساسي، والمهم لثباتك في هذه الحياة.
أنت بالله أقوى، وأنت بالله قادرٌ على كلّ شيء، وأنت بالله ثابت ومتوازن، وأنتَ بالله مدركٌ لحل كلّ مشكلة، أنت بالله تنظر للمخرج دائمًا وليس لظلام النفق، أنت بالله واسعٌ صدرك مهما ضاق بقول الآخرين.
إن الشخص الأكثر أهميّة في هذا الكون والأكثر استحقاقًا للاهتمام والمراعاة هو (أنت)، التعامل مع الأنا يحتاج للكثير من العناية والحرص، لأنك الشخص المؤثر في تفكيرك، والشخص المؤثر في كيفية إدارة أفعالك وردود أفعالك، في الحفاظ على قيمك وتوازنك، وفي بناء معتقداتك، لذلك وأنت تقرأ القرآن تجد الخطاب فيه موجهٌ لك، تجد بأنه خطابٌ يحمل فعل أمر أو نهيٍ لأجلك، لإيقاظ عقلك، وتبديد غفلتك، أنت ملزمٌ بالاهتداء، بمعرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه، أنت المسؤول عن نفسك، أنت المحاسب على أفعالك، والمجازى عليها، لن تسأل عمّا فعل جارك، أو عمّا فعل قريبٌ لك، أو عمّا فعل صديقك، ستحاسب عمّا اقترفته أنت، توقف عن الشعور بأنك مسؤول عن الجميع، وبأنك مكلّف بمعرفة أحوالهم جميعًا، وتحملهم عبء الإجابة على أسئلتك الفضولية! ليست هذه مهمتك في الحياة، ولم يكلّفك الله بهذا، التفت لحياتك، توقف عن الخوض في تفاصيل حياة الآخرين، فإن الفضول هو آفة الأخلاق.
مهما اعترتك شدّة، وشعرت بأنك تصعد من شدة الأمل، وتهوي من شدة اليأس، تذكّر بأن ما يصعد بك ويهوي بك هو عقلك وأفكارك، الانسان قد يصعد جبلًا من الكبر والجبروت والغرور بسبب ما يدور في عقله عن ذاته، وقد يصبح ذليلًا لا قيمة له بسبب الأفكار التي في عقله، فالإنسان أسير معتقداته، ورهينة عقلة وتفكيره، لن تجد شخصًا متوازنًا إلّا ووجدته وثيق الصلة بربه، يستمد منه الرشد والهداية في التبصر بنفسه، متخليًّا عن (قيل وقال)، متفرغٌ لمعرفة أخطائه وتصويبها، ومعرفة النعم والعطايا التي رزقها والامتنان لربه عليها، هو إنسان وازن بين قيمة نفسه وبين ضعف نفسه، فلا يصبح مغرورًا ولا يصبح ذليلًا!
وأخيرًا وجدتُ أنه من المهم أن يكون للإنسان وقفات يستدرك فيها ما فاته، ويصلح فيها أخطاءه، ويهذّب من خلالها شعث روحه، تلك الوقفات التي غالبًا ما تأتي بعد مطاحنة الظروف، ومعاجنة الناس، وتحليل الأحداث، والتأمل في النعم، وقراءة القرآن، والدعاء، والعزلة بالنفس.
فإن كنت يا عزيزي القارئ مستدركًا مثلي فتعقيبك على ما كتبت فيه تبصير وتنوير وتوسيع مدارك.