الفراغ.. القاتل البطيء!

590de3836603ba1ab8085c96f12dcab3

 

الفراغ، القاتل البطيء الذي يُداهم حياة الكثيرين مسببًا لهم الإحباط والحزن الشديدين، وليس أي فراغ، أقصد بذلك الفراغ الذي يصحبه طموحات وأحلام وآمال معلّقة يقابلها تراخي وكسل وانتظار بشع ومميت، وكأنه حبل يلتف حول رقبة المصاب بداء الانتظار، يشد هذا الحبل أكثر فأكثر كلّما ارتفعت كمية الإحباط المصاحبة للانتظار، إلى أن يموت الشخص بالإكتئاب والحزن!

وصلني سؤال في إحدى الليالي على الخاص في الانستقرام، عن كيفية ملئ ساعات الفراغ التي طالت بسبب الانتظار والحزن على تأخر الوظيفة والزواج..إلى آخره.
وربما تلك الفتاة التي وعدتها بكتابة هذه التدوينة في هذا الشأن تنتظر ما سأكتبه، ربمَا كتبتُ لأجلها، ولأجلي ولأجل الكثيرات.

لا أستطيع أن أعدك أيها القارئ بحلول سحرية، ولا بوصفة سريعة المفعول، لأنك الشخص الأول الذي ينبغي أن يجد الوصفة والطريقة لمحاربة الفراغ، وللتخلص من المشاعر السلبية المُصاحبة له.
لكنّي سأدلي بدلوي، وبالطرق التي ساعدتني لكي أتغلّب على ذلك الشبح المُقيت (الفراغ).

أعتقد بأن السبب الرئيسي وراء شعور الفراغ هو: الكسل أولًا ، والإحباط ثانيًا، والذي يدعو لذلك هو تحديدك لقائمة معينة من الطموحات والأمنيات والأحلام، إن لم تتحقق تلك القائمة فإن الإحباط سيصيبك، وستشعرين بأن الفشل واليأس قد قاب قوسين أو أدنى من حياتك، وبأن دواعي البهجة والسعادة والفرح قد بدأت بالتلاشي، فتبدأين بإهمال نفسك، إهمال ذاتك من الداخل، وإهمال جسدك والذي يتضمن إهمال صحتك النفسة والجسدية، وإهمال مظهرك والعناية به، وإهمال عقلك وذاتك من تغذيتهما والعمل على تطويرهما!
فالبعض قد تجعل طموحها مقتصر على وظيفة معينة، إن لم تحصل على الوظيفة فإنها لن تستطيع مجابهة الحياة والعيش بسعادة، وأخرى قد تشعر بفراغ عاطفي تنتظر شريكًا يملأ ذلك الفراغ، ويمنحها السعادة التي تحلم بها، رُغم أن ذلك الشريك لن يأتي حاملًا بين يديه تاج السعادة ليتوجك به مدَى الحياة، فهو سيأتي ليُشاركك حياتك، حياتك التي اخترتها وصنعتها لنفسك، إن كانت سعيدة سيشاركك سعادتك، وإن كانت حزينة وتعيسة ومليئة بالرتابة والحزن فلن يستطيع تغييرها، وأخرى قد تربط سعادتها بمستوى مادي معين إن لم تصل إليه فإنها تعيش محبطة حزينة، وأصناف الأمنيات كثيرة!

بدايةً علينا التيقن دون شكٍ أو ريب أن الرزق سيسوقه الرزّاق إلينا، ربما ليس بالصورة التي نتخيلها، ربما على هيئاتٍ كثيرة ومتعدّدة، ربما نحن ننعمُ في الرزق ولكننا لا ننتبه له، لأننا علّقنا آمالنا وأعيننا على رزق آخر رأيناه لدى الآخرين!

قال تعالى:(ولا تمدنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدّنيا لنفتنهم فيه ورزق ربّك خيرٌ وأبقى)
قال أبي بن كعب: من لم يعتزّ بعزاء الله تقطعت نفسه حسرات، ومن يتبع بصره فيما في أيدِ النّاس بطل حزنه، ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قلّ علمه وحضر عذابه.

مراقبة ما عند الآخرين ومقارنته بما بين يديك، والحزن على فوات حظك ورزقك يُفاقم المشكلة، ويصيبك بالحزن والحسرة الباطلة، فالصحة إذا ارتبطت بالفراغ هي نعمةٌ كبيرة وعليك استغلالها بما ينفعك أولًا وينفع المجتمع ومن حولك ثانيًا، لا سيمَا أنكِ مسؤولة عن شبابك فيما أبليته، فالشباب لن يدوم، سيبلى وعليك استغنام فرصة الشباب حتى لا تشعري بالندم عند فوات الأوان، ومسؤولة عن عمرك فيما تفنينه، فالعمر فانٍ، وعليك استثماره ليعود عليك بخيري الدنيا والآخرة.

باعتقادي أن كثرة استخدام شبكات التواصل الاجتماعي دون أن يكون الدّاعي لذلك فائدةً مرجوّة يُفسد الكثير، وقد لفتتني تغريدة لإحدى المعروفات على شبكات التواصل الاجتماعي تقول فيها:

(متابعة حياة الآخرين جميلة عندما تكون لديك حياة تعيشها، لكن من السّام جدًّا أن تقضي حياتك متفرجًا دون أن يكون لديك حياة، املأ فراغك بالآخرين، لا تجعل فراغ الآخرين يملؤك)
– أروى العمراني

لامسني قولها ذاك، وشعرتُ بحقيقته، فعندما يكون لديك حياة خاصة تستمتعين بها لن تشعري بالفراغ أو المقارنة أو الحزن عند مشاهدتك لحياة الآخرين، ولكن عندمَا تراقبين حياة الآخرين وتجعلين حياتك مقابلةً لها وتبدأين في شن الحرب على ذاتك ونفسك وذلك بمقارنة ما ينقصك بما يمتلكون عندها تكونين قد حكمتي على نفسك وحياتك بالفشل، وحمّلتي نفسك فوق طاقتها.

استخدام الشبكة الاجتماعية بحاجة إلى ترشيد وتوجيه، إلى أن تتحصّن جيّدًا من أن تكون فريسة الشيطان بأن يبث سمّ الحسد والغيرة والإحباط والمقارنة السلبية في روحك وقلبك، فتفسد روحك، ويفسد عقلك وتفكيرك!
والأسلمُ في رأيي هي أن تصنعي في عالمك الخاص أشياء تحبّينها، أن تتعرفي على نفسك وترافقيها في أيامك، أن تكوني الصديق الأول لروحك، تعرفي مكنونات نفسك، ومداخل البهجة إلى روحك، فتكون أوقات فراغك استثمارًا لك، وأوقات عُزلتك أنيسةً لروحك حيث تتخففين من عبء الحياة وضجيجها وتسكنين إلى سلامك الداخلي.

والطرق إلى ذلك متعددة ويسيرة بإذن الله، إن عزمتِ على الخروج من قوقعة الحزن والإحباط، واستغلال فراغك بما ينفعك ويُسعدك:

  • – اكتشفي قدراتك ومواهبك ومهاراتك، واعملي على تطويرها وصقلها، فممارسة الهوايات التي تحبينها يوجد الشغف بداخلك، وإذا وُجد الشغف سيلوّن حياتك بألوانها الحقيقية، دون تعتيم أو تظليل.
  • – ممارسة المهارة التي لديك في مجالاتها، خصوصًا أن الانترنت يفتح لك المجال للكثير من الفرص والقنوات التعليمية التي ترفع من مستوى اتقانك للمهارة، فكثرة الممارسة تجعلك تتعرفين على أسلوبك الخاص بك، وتكتشفين نقاط قوتك، وستجدين مع الوقت أنك أصبحت أكثر ثقة بما تنتجين، ولربما مكّنك ذلك من تحويله إلى عمل خاص، أو توظيفه ليكون مصدر دخل لك، لاسيما مع وجود المنصات التعليمية التي تمكنك من حضور دورات وفصول دراسية تفتح لك مدارك كثيرة وآفاق واسعة من المعرفة منها: منصة رواق، ومنصة مهارة، ومنصة دروب…إلى آخره..
  • – التطوع في المراكز والجمعيات الخيرية والمؤسسات الغير ربحية، فالتطوع له أثر إيجابي على الفرد والمجتمع، بالإضافة إلى أنك تسعين إلى سد ثغرة في المجتمع، وإفادة غيرك، وتدريب النفس على العطاء دون مقابل، إضافةً إلى أثره الإيجابي على شخصك، من ناحية ممارسة مهارتك في بيئة حيّة، وتطوير مهاراتك كالتواصل الاجتماعي، وكسب العديد من العلاقات، وإبراز نفسك من خلال العمل الذي تقدمينه مما يجعل فرصة وصول الجهات إليك أكبر وبالتالي زيادة فرصة الحصول على عمل، مع التنويه والتأكيد على عدم إغفال أهمية النيّة الحسنة في أي عمل تقومين به، فالثواب معقود بالنية، قال -صلى الله عليه وسلم-: “إنما الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى”.
  • – القراءة أسلوب حياة صحي، فتزويد العقل بالمعلومات، وممارسة القراءة بشكل يومي أو على الأقل مرة في الأسبوع، يمرّن العقل على الانفتاح للأفكار، وتقبل المجتمع، والتناغم مع الحياة والقدرة على فهم مجريات الأمور، وتحليل الصراعات، وتكوين خلفية ثقافية، واكتساب محصول لغويّ جيّد، ينعكس على خطاباتك وحديثك مع الآخرين والنقاشات التي تدور بينكم.
  • – الاندماج في بيئة إيجابية تجدين فيها متعة روحك، والتخلص من الأشخاص المحبطين والذين يسمّمون روحك بكثرة العتاب والإحباط الذي لا يتخلله حبّ وحرص ومساعدة، ومن ذلك أيضًا تنقية الأشخاص الذين تقومين بمتابعتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، والتخلص من أولئك الذين يستعرضون مالديهم من نعم على سبيل المُفاخرة والاستعراض، ففي الوقت الحالي أصبح الجهاز المتنقل هو الرفيق الملاصق لك، منذُ أن تفتحي عينيك بداية اليوم إلى أن تغمضيها ليلًا، ومن المميت فعلًا أن الأشخاص الذين يرافقونك طيلة يومك هُم أشخاص بلا فائدة ولا محتوى هادف، وكل ما يعرضونه هو حياة الترف والرفاهية التي لا تعكس أي رسالة هادفة أو إيجابية، لذلك أول خطوة لتساعدي نفسك على التخلص من الإحباط هو التخلص من كل مَن يُشعرك بالإحباط سواء بشكلٍ مُباشر أو غير مباشر.
  • – لا بأس من طلب المساعدة من المقربين منك والديك وأخوتك وطلب الدعم منهم أيًّا كان نوع الدّعم، نفسي أو مادي أو معنوي، وإذا لم تستطيعين فهناك حسابات وجهات رسمية تقدم للفتيات الاستشارات الأسرية والاجتماعية.
  • – الخطوة الأولى هي الحل، ابدأي خطوتك الأولى لتحقيق الهدف الذي تريدينه، فإن كان هدفك الحصول على وظيفة فعليك بذل الأسباب للحصول عليها، معرفة متطلبات سوق العمل والحرص على اكتساب المهارة والمعرفة، والحرص على اكتمال المتطلبات من أوراق وسيرة ذاتية واضحة ومتكاملة، والبحث بالطرق الحديثة عن فرص العمل من خلال موقع طاقات وشبكة لينكد ان، وتطوير اللغة إن كانت ضعيفة لديك من خلال التعلم الذاتي عن طريق قنوات اليوتيوب التعليمية.
  • – الاهتمام بمظهرك، والاعتناء بجسدك، فلجسدك عليك حق، فرضاك عن مظهرك ينمّي رضاك الداخلي وانفتاحك على الحياة، والرضا يبدأ بتقبل تفاصيل جسدك التي لا تستطيعين تغييرها، رضاك عن الخالق في خلقته، واعتنائك بالجسد الذي هو أمانة لديك بأن تحرصين على تكوني في أحسن هيئة دون مبالغة، فمفاهيم الاعتناء بالجسد قد شوّهت وبالغ الكثير من الفتيات والكثير من مشاهير الشبكات الاجتماعية في إظهارها على أنها تحتاج إلى تكلفة مادية قد تصل إلى حد التبذير، بالإضافة إلى تعقيد الطرق والأساليب! وباعتقادي بأن المبالغة مذمومة ومُرهقة ولا تصل إلى نتائج كما يصورها البعض، يكفي بأن تحرصي على النظافة الشخصية وعلى ما أتت به السنة النبوية من توجيهات للنظافة الشخصية، بالإضافة إلى أسلوب الأكل الصحي، كأن تتجنبي الأكل فوق حاجتك لقوله -صلى الله عليه وسلم-: ” ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه”، وإذا كنتِ تواجهين مشكلة (الأكل العاطفي) كأن تفرغي طاقة الحزن أو الإحباط الذي لديك من خلال الإسراف في الأكل فعليك المبادرة بمساعدة نفسك على التخلص من هذه العادة، أو التوجه إلى مساعد نفسي لبدء علاج سلوكي، وباعتقادي بأن الأمر بيدك إن امتلكتِ إرادة وعزيمة على مساعدة نفسك.
  • – كتابة قائمة بالأشياء التي تُبهجك، والحرص على أن يكون محيطك نظيفًا مرتبًا يبعث على الراحة والسكينة والاسترخاء، فمن المستحيل أن تنطلقي لحل مشاكلك مالم تستطيعي البدء بترتيب سريرك وغرفتك ومحيطك ومنزلك، والتخلص من الفائض والأشياء الزائدة عن حاجتك، وجعل كل ما تقع عليه عينيك يبعث على السعادة والراحة، وتخصيص وقت للأشياء التي تحبين ممارستها، كمشاهدة فيلم وثائقي، أو فيلم يحمل قصة قيمة، وقراءة كتاب أو رواية ممتعة وتحمل فكرة مُدهشة تشدّ عقلك للتفكير والدخول إلى عالم آخر، وكتابة أفكارك وعرضها من خلال حسابك على انستقرام أو تويتر ومشاركة الآخرين الأفكار والمعلومات الجديدة، صنع طبق جديد ومثير لم يسبق لك تجربة صنعه وتقديمه لمن تحبّين، وتبادل الكلمات الطيّبة والمحفزة، فليس عليك تلقّيها فقط، بل عليك أن تمنحيها لمن يحتاجها، تلك الكلمات ستؤثر بك حين تشعرين بسعادة الطرف الآخر الذي تلقى تلك الكلمات.
  • – حضور الدورات والندوات واللقاءات والأمسيات التي تحدث في مدينتك ومتابعة الحسابات التي تُعلن عن الفعاليات الحديثة في المنطقة تجربة تستحق أن تخوضينها وتحرصي على التواجد في تلك الأماكن، لما لها من أثر كبير على نفسك وتفتح لك آفاق ومساحات للتفكير الإبداعي.

 

أتمنّى أن أكون قد وفّقت في مساعدتك ومساعدة الكثير من الفتيات اللاتي وقعن فريسة للفراغ، وتحتاج ربما إلى كلمات وتوجيهات بسيطة لتنفض غبار الكسل والتشاؤم والإحباط.
عليك أن تُدركي أنّنا جميعنَا وُجدنا على هذه الأرض لغاية وهدف عظيمين، ولا يليق بأحدنا أن يمرّ يومه رتيبًا دون بذل أو عمل وإن كان صغيرًا، فالنيّة الحسنة تعظّم العمل مهما كان صغيرًا، والاستعانة بالله أولًا وأخيرًا والدعاء الدائم بأن ينفع الله بك هو الطريقة الأولى ليُبصرك الله بنقاط القوة لديك ويمكّنك من استعمالها في أوجه الخير.
وأخيرًا أتمنّى أن تكوني في النهاية قد اكتشفتِ طريقك الذي يقودك إلى عالمِ الجدّ والإنجاز.
وسأسعد باستقبال رسائلكم وتعليقاتكم أسفل هذه التدوينة.

 

انطلق وجرّب واستمتع بالرحلة.

2ceb979a49ae948de69815ed2d8c8ae8

ماهي أعظم مخاوفك؟
هل وجهت إلى نفسك ذلك السؤال؟ وهل ستجيب عليه إجابةً واضحة إذا ماوجّه إليه؟
ما مقياس الرضا عن حياتك، عمّا تقوم به، عن عملك، عن علاقاتك؟

كثيرًا ما تقفز تلك الأسئلة إلى ذهني، وأنظر دائمًا إلى الجزء الفارغ من الكوب “كما يقولون”، فتعظم النقائص في نظري، ويتكوّن شعور بعدم الرضا في داخلي، لماذا لا يمتلئ الكوب، لماذا ذلك الفراغ، متى سيمتلئ!؟
الخوف من عدم تحقيق الكمال يعيق سير الحياة، يعيق المرء عن العمل، وعن تحقيق النتائج، لا بأس بذلك الطموح في الأشياء التي في متناول اليد، لكن الأشياء التي تخرج عن سيطرتك فإن تضييق النطاق للحد الذي يجعل من تقبلها أمرًا مستحيلًا قد يخلق شعورًا بالإحباط والحزن والتذمر.
كالذي يدور حول حفرة ويخشى السقوط فيها، فيظل يدور ويدور إلى أن يسقط متهالكًا في تلك الحفرة، يصرخ ويبحث عن مساعدة، عن مجيب، عن عابرٍ ينتشله من ذلك الظلام ويخبره بحنوّ ولطف أن الطريق من هنا، أو لو أنه يمسك بيده ويرافقه إلى الطريق الصحيح سيكون أفضل!
خوفك الذي يجعلك تدور في دائرة مفرغة، فلا أنت الذي قدّمت عملًا كاملًا، ولا أنت الذي تراجعت تراجعًا تامًا، تظل في خوف وقلق، وغالبًا عند عدم تحقيقك للنتائج الكاملة تدخل في حالة لومٌ دائم للنفس، لدرجةٍ تشعر فيها بأنك لن تخرج من دوّامة اللوم، تلومها على حظها، وعلى ما فاتها، وقد تفسد على نفسك الاستمتاع بالعمل بسبب النقص المتضمن في التفاصيل الصغيرة.

الباحث عن الكمال: يركز على النتائج دائمًا، ويغفل عمّا بين يديه من تفاصيل ممتعة قد لا تتكرر، أراه من وجهة نظري يعيش في اضطراب دائم، على سبيل المثال: إذا كان العمل جماعيًا فإنه لا ينتبه إلى روح الفريق، إلى الألفة التي تضم الأفراد أثناء العمل، إلى الضحكات والابتسامات والاخفاقات الصغيرة التي قد تضيف إلى رصيد كل فردٍ خبرة ومعرفة، فهو مركز على النتائج فقط، ولا يقبل بالنقص.
وإذا كان الباحث عن الكمال يخطط لرحلة ما، فإنه يخطط لأبسط التفاصيل، لا يقبل الإخفاق ولا النقص، قد يفقد الاستمتاع بنومه أثناء الرحلة لأنه يخشى أن يفسد شيء مما خطط له، لا يقبل الحلول الدنيا، يبحث عن الأكمل دائمًا، وتلك القاعدة والرغبة قد تحرمه من روح المغامرة التي تضيف على الرحلة الشيء الكثير من السعادة والتشويق، قد يحرم نفسه من تجربة جديدة لأنه لا يريد أن يخرج عن السياق الذي خطط له.
الباحث عن الكمال قد يفوت الكثير من الفرص التي تأتي نتيجة إخفاقات أو انكسارات أو خيبات أمل، فالحياة مجال واسع جدًّا، والمتعة فيها بأن تخرج عن المألوف، وأن تعرف أضداد الأشياء، فنقص شيء ما قد يبصرك بكمال آخر، عندما تقدم عملًا وتكتشف فيما بعد أنه لم يقدم بالشكل المطلوب، قد تجدُ توجيهًا لم يكُن بالحسبان، فتقدم الأفضل في المرة القادمة، ولا يعني هذا أن تقدم عملًا ناقصًا، ولكن أن تتعامل مع حالة الإحباط، وتحسن من النتائج مستقبلًا.

ليس من الضروري تغيير كل شيء ليصبح كاملًا:
ومن ذلك أن تعرف أنك لستَ ملزمًا بجعل الأشخاص يتمتعون بالكمال، تقبّل نقص الطرف الذي أمامك، ذلك سيجعلك قادرًا على تكوين علاقة صحيّة، تقبُّل الأشياء التي لا يمكن تغييرها قد يكون حلًّا جذريًا لكثير من المشاكل.

الامتنان للنعم الصغيرة:
لا يكفي أن تمتن للنعم بشكل عام، وجدتُ أن في تعداد النعم الصغيرة، وذكرها بالتخصيص فائدة ملحوظة، فمثلًا، أن تقوم بتعداد واضح لكل نعمة على حده، أن تركز لوهلة لنبضات قلبك، ذلك النبض يتم بأمر الله، فالله يريدك أن تكون على قيد الحياة، هذه نعمةٌ تستحق الامتنان، تنفسك الذي يحدث بشكل طبيعي دون تدخلٍ خارجي نعمةٌ تستحق الشكر والامتنان، رؤيتك الواضحة لتفاصيل الأشياء، لضوء النهار، وسادتك المريحة، الهدوء الذي يغطي المكان أثناء نومك والأمان الذي يحفّك وأنت في منزلك بين عائلتك، عندما تودع أحد أفراد عائلتك الذاهب إلى العمل وتعود إلى نشاطك اليومي دون أن ينتابك خوفٌ من (ألّا يعود)، عندما تنام مليء البطن، وتجد الماء متى عطشت إليه، والطعام متى أردته، تلك الامتنانات الصغيرة تعظّم شعور الرضا بداخلك.

– كم مرّةً آمنت بحدوث شيء، بذلت وسعيت، التصق ذلك الشيء بعقلك وتفكيرك، تنام وأنت تفكر به، تصحو وأنت تخطط لأجله، لا تعلم تفاصيل كثيرة، ليست لديك خطة واضحة، ولا خطوات مرقمة تتبعها فيتحقق ذلك الشيء، لكنك تبذل جهدك، تأخذ بجميع الأسباب التي توصلك إليه، يدفعك يقينك وإيمانك بأنه سيحدث ولو بعد حين، تمامًا كما أخفق اديسون مراتٍ ومرات، دون أن يتوقف عن المحاولة، الإيمان الذي يدفعك للمحاولة مرةً بعد الأخرى، تصل لمرحلة تعتاد فيها على الفشل ويصبح صديقك، تتقبله وتتعلم منه، ثم يهديك الفشل طريقة للنجاح، فتكتشف بأن الفشل هو الخطوة الأولى التي تسبق النجاح، والأخطاء هي الدروس التي تكتب بواسطتها وصفة النجاح، فليس من المشروط أن تكون التجربة الأولى ناجحة، ولا أن تكون النتيجة الأولى كاملة، فالنقص والفشل والاخفاق خطوات تسبق النجاح.

– عندما خرجنا إلى الحياة لم يعلمنا أحدهم كيف نطلب الطعام، كيف نمشي، كيف نصل إلى الشيء، ماهي الأشياء المسموح لنا بلمسها، وماهي الأشياء التي علينا الابتعاد عنها، جربنا الوقوف فسقطنا، لمسنا ابريق شاي ساخن فاحترقنا، أمسكنا السكين فجرحنا، لعبنا بالنار فلسعتنا، وهكذا تباعًا، توالت علينا التجارب، فاستزدنا منها معلومات ومعارف، لم يخبرنا أحد من هو الشخص الجيد ومن هو السيء، دخلنا في علاقاتٍ كثيرة ومتنوعة، ندمنا على معرفة فلان، وامتننا لمعرفة آخر، وهكذا مشينا إلى سن النضج، لكلٍّ منّا وصفته الخاصة، وتجاربه الخاصة، لكلٍّ منا عدد صفحات في كتاب خبرته، هنالك من يسجل التفاصيل، ينتبه لأدقها، يتعلم من أصغر خطأ إلى أكبر خطأ، وهنالك من يمشي غافلًا، يعيد الخطأ مرةً تلو المرة، لا تجد طريقةً للتعامل معه لأنه لم يعرف كيف يتعامل مع نفسه بعد، وهكذا نمضي…!
نمرّ بمراحل كثيرة ومتنوعة، متصاعدة الإيقاع تارة، ومنخفضة الإيقاع تارةً أخرى، ننتقل من شغف وطموح إلى يأسٍ وإحباط، ثم نخرج من اليأس والإحباط إلى حالة امتنان واحتفاء، لأن الخوف من استمرار اليأس والبحث عن مخرج كان دافعًا قويًا لأن نجدّد التفاؤل في أعماقنا، لأن الله يحب الفأل، ولأنه عند ظن عبده، فلا تظن السوء أبدًا، مهما بدت لك حالتك سيئة، ولا مرجو أن يتبدّد سوؤها، تلك الحالة مطلبٌ لتميز الأضداد، لن تشعر بقيمة الفرح مالم تجرب الحزن، ولن تشعر بقيمة النجاح مالم تجرب الفشل، ولن تميز الصح إلا بضده، ولا الحسن إلّا بالقبيح، لن تميز تفاؤلك إلا عندمَا تتذوق طعم اليأس، واحذر كل الحذر من القنوط، فهو عدوّك اللدود، ولا تستسلم للصدمات، فتأثيرها سيظهر على صحتك وجسدك، تعامل مع الصدمات بثبات، هيئ نفسك دائمًا للتعامل مع الأزمات.


– جميعنَا ذلك الباحث المتعطّش، ذلك التائه الذي يبحث عن الكمال، نريد أن نحرز أكبر قدرٍ ممكن من الأهداف الصائبة، نخاف الفشل والخطأ، لدينا ذلك الضمير القاسي الذي يشبعنا ضربًا إذا ما وقعنا في الخطأ، والنفس اللوامة التي تنضجنا بنار الندم إذا ما أخفقنا، نصبح خائفين من التجربة، لا نعمل، ولا ننتهز الفرص؛ لأننا نخشى الإخفاق، وبالتالي فإننا لن نفلت من سياط الضمير، في الحقيقة ضمائرنا هي نحن، هي أفكارنا، وهي معتقداتنا، كلما شعرت بسيطرة الضمير الذي يجعلك تخلط بينما ما هو مسموح لك وما هو ممنوع عليك؛ فاعلم أنك لست أسير ضميرك إنما أسير أفكارك ومعتقداتك الخاطئة -أو المبالغ فيها-.
لن تنجو من أن تقع في خطأ أو مشكلة، لن يكون الطريق سالكًا دائمًا ومزهرًا ولا يتخلله عقبات، لست معصومًا ولا كاملًا حتى تستبعد الخطأ والزلة عن نفسك، كلّنا خطّاؤون، وهذه جبلّتنا، علينا نتعلّم من أخطائنا، ونصبح أكثر تصالحًا مع أنفسنا إذا أخطأت، فباب الإصلاح مفتوح دائمًا، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، ونفسك أولى الأشياء بالرفق، وكما قلت سابقًا لتعرف الشيء عليك أن تعرف ضده، وهذه قاعدة الحياة، فاخرج من دائرتك الضيقة إلى العالم الفسيح، هنالك الكثير من الفرص، الكثير من الأشياء التي عليك اكتشافها، هنالك الكثير من الدروس والعبر لن تكتشفها إلّا بالتجربة، وهنالك الكثير من المهارات والمعارف التي لن تكتسبها إلّا بالإخفاق، فالرحلة إلى النجاح والكمال صعبةٌ وشاقة، ولكن تتضمنها الكثير من التفاصيل الجميلة والممتعة، فلا تجعل التركيز على النتيجة يفقدك متعة الرحلة، انطلق وجرّب واستمتع بالرحلة.



وأخيرًا، كونوا بخير يا أصدقاء.

 

النظر إلى الحقيقة!

0f2314f1db41a26f10d9d64f74b741cb

هل سبق ودخلت في حوار تحوّل إلى حلبة مصارعة بينك وبين مجموعة من أصدقائك أو أشخاص جمعتكم مناسبة معينة أو اجتماع دافئ، ولكن وبمجرد الدخول إلى نقاش معين تنقسمون إلى وجهات نظر متعدّدة.
على سبيل المثال: عندما تكون بين مجموعة من الأصدقاء، وتقوم بمشاهدة –ستوري- سنابتشات، ثمّ تعلّق: “ياخي والله هذا الإنسان (المشهور) يعرض تفاصيل في حياته لا ينبغي على الجميع أن يراها.”
فيأتي صوت يبدو على نبراته الإعتراض الشديد، يخالف مبدأك، ويثبت لك أن هذا الإنسان يشارك يوميّاته على سبيل الترفيه والمؤانسة، إنه شخص متسامح مع الجميع ويعرض تفاصيل حياته لحبّه لمتابعيه -الذين قد لا يعرفُ عنهم قدر أنملة بينما هم يحفظون تفاصيله-.
ليس بالضرورة أن تفكيره خاطئ، لكنه ينظر إلى الموضوع من خلال إطاره الفكري، وأنت نظرت إلى الموضوع أيضًا من خلال إطارك الفكري الذي ترسّخ في داخلك من خلال اللاشعور الذي استوحيته من عادات وتقاليد ووجهات نظر مجتمعك، فيكون ردك على ذلك بأنه شيء يدعو إلى الخوف حين تشعر بأن آلاف الأشخاص يعرفون ما يحدث في يومك، وأن الوصول إليك في متناول الجميع، وقد تتعرض إلى مضايقات وعداوات وكراهية أشخاص لا تعرف عن وجودهم بينما هم قد كونوا مشاعر معيّنة تجاهك، وتعرّفوا على جوانب عديدة في شخصيتك، وتنافر معك الآلاف، وأحبك الآلاف أيضًا!
بعيدًا عن المثال الذي ذكرته والذي قد يحتمل جوانب مختلفة، وآراء عديدة التفرع، إلّا أنّي أود الحديث عن تعصب العديد من الأشخاص لوجهة نظرهم تجاه أمرٍ مّا قد يكون سياسيًا أو دينيًا أو فنيًا…إلخ
إن كلّ شخص في هذا الكون ينظر إلى ناحية معينة من أي أمر، فلو حدثت مشكلة ما -حادث سير- واجتمع آلاف المتفرجين، لرأيت أن كل شخص منهم ينظر إلى الحادث من ناحيته الخاصة، ويركّز على جانب معين، فذلك ينظر إلى السيارة التي قد تحتاج إلى تكلفة عالية لتعود كما كانت، والآخر يهرع إلى إنقاذ المتأذي من الحادث بينما الآخر يرفع عدسة التصوير في هاتفه لتوثيق التفاصيل، والآخر يشعر بالحزن والأسى على المتأذين من الحادث وآخر قد يلقي باللوم على سائق السيارة الذي لابد و أنه كان مشغولًا أثناء القيادة أو متجاوزًا للسرعة، وكل واحد من هؤلاء المتفرجين لو نظر إلى الجانب الذي يرى من خلاله الآخر إلى الموضوع لاستحقر بعضهم بعضًا.

ذلك ما يجعلنا نختلف في دوافعنا، وفي وجهات نظرنا، وليس عليك التعصب لوجهة نظرك، لا تدري لعلّك مع مرور الأيام تتبنى رأي معارضك وتعارض من كان يتبع نظريتك.

بدأت بقراءة كتاب “خوارق اللاشعور” للدكتور علي الوردي، وفي بداية قراءتي للمقدمة شعرتُ بأنّي سأختلف مع الكاتب حول فكرته، ولأني شديدة الحساسية تجاه الأمور التي قد تمس العقيدة فإني شديدة الحذر تجاه كل كلمة وكل حرف.

ما فهمته من المقدمة التي قرأت منها صفحاتٍ قليلة في البداية ثم أغلقت الكتاب، أنه أثبت علميًا أن الإلهام الذي ينبثق من أغوار اللاشعور هو الذي قاد إلى قدر كبير من الإنجازات الخالدة ونجح من خلاله النابغون، وأن الإنسان يملك في أعماق عقله الباطن قوى نفاذة تخترق حجب الزمان والمكان.
بالإضافة إلى أن العديد من الجامعات أدخلت الموضوع إلى مناهجها، خصوصًا الجامعات المشهورة مثل جامعتي أوكسفورد وكمبردج التي شجعت هذا الموضوع عن طريق الهبات وتوزيع الزمالات.

لم أكن على قناعة بأن هذا الكتاب جيد للقراءة، ولكن اكتشفت أن البعض يواجه ذلك الأمر الغير مفسر في حياتهم، كم مرّة شعرت بأن شيئًا ما سيحدث، ولم يمضِ وقت طويل حتّى حدث ما كنت تتوقعه بذات التفصيل الذي شعرت به، الكثير يواجه هذا الأمر، وذلك ما دفعني لإكمال قراءة الكتاب لمعرفة التفاصيل التي يريد الكاتب إيصالها.
فعدت أمسك الكتاب وأجعل تعصبي الفكري جانبًا، وأنهي المقدمة التي ختمها الكاتب ب “أرجو من القارئ الذي لا يجد من نفسه ولعًا بمتابعة هذا البحث أن يقف عند هذا الحد فلا يتعداه.. إذ يكتفي بما قرأ في المقدمة فيريح ويستريح”
ووجدتني أجيبه، لقد اشتعل الولع في داخلي ولن يهدأ حتى أعرف تفاصيل هذا البحث وإلى أين ينتهي، فإما أن يقنعني أو أن أتخذ رأيًا مخالفًا وأبحث فيه، أو أن أكون عنصرًا محايدًا وألتزم الصمت وأنه ربما يكون صحيح وربما لا.

استوقفني جزء مما كتبه د. علي الوردي في كتاب (خوارق اللاشعور): بأن كل واحدٍ منا يشعر بأثر القوى النفسية في حياته. وبعضنا يميل إلى الإعتراف بها إذا خلا إلى أقربائه وأصدقائه المقربين.
ولعلّ الذي جعلني أصدق هذه الجزئية بأنني شخصيًا أؤمن بأن هنالك قوى ومشاعر أقوى من أن يستطيع الإنسان السيطرة عليها، فكم من مرة شعرت بأن أمرًا شائك الوقوع، ولم يمضِ الوقت حتى وقع الأمر، والأمثلة على ذلك كثير، وشخصيًا قد تكون الرؤى والأحلام خير دليل.
وأيضًا مشاعر المحبة والنفور، كم مرّة رأيت شخصًا لا تربطك به علاقة أو موقف إنما شعرت في داخلك بأنك لا تحبّ ذلك الشخص، وعلى العكس تمامًا تصادف أشخاصًا فتشعر بألفة تجاههم وكأنك تعرفهم منذُ أزمان!
وفي ذلك قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: “الأرواح جنودٌ مجنّدة ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف”. -صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء: باب الأرواح جنود مجنّدة.

لطالما توقّفت في نقاش ما وأنا أنظر إلى الإطار العام الذي يدور حوله الحوار، فأجد أن لكل شخص يبدي رأيه وجهة نظره الخاصة، ولا أستطيع الحكم بأنه على حق أو على عكسه، إنما كل ما علي فعله أن أتيقن بأن لا أحد سيغيّر رأيه الذي هو مقتنعٌ به لمجرد أنّ هنالك من يخالفه إلا في حالة واحدة، إذا كان شخصًا واسع الأفق، ومرحب بكل إختلاف، فلابدّ أنه سيؤكد بأنه سيأخذ الرأي الآخر على محمل الجد، أتخيل لوهلة لو أننا جميعنا تعاملنا بهذا المبدأ، بأن نرحب بكلّ فكرة تخالف ما تعودنا عليه، بأن نعتبر الاختلافات هي نِعم توسّع مداركنا، ليس بالضرورة أن نتفق في الرأي، لكن الاختلاف يجعلنا نرى الموضوع من زوايا عدّة.

مؤخرًا أصبحت عندما أتعرض لمشكلة ما أو أشعر بأنّي شديدة التزمت والتعصب لرأيي أقوم بطرح المشكلة لأحاورها مع أشخاص يختلفون عنّي في الشخصية والإطار الفكري، ليس لأني أريد منهم إقناعي بآرائهم، بل لأنّي أريد أن أرى الزاوية التي لا أستطيع رؤيتها بسبب الإطار الفكري الذي يحيط بعقلي، فوجدت أن الأمر مريحٌ جدًا، لأنّي في نهاية المطاف أتخذ قرارًا عن قناعةٍ تامة، بأنّني أعرف جوانبه العديدة واختياري لقراري نابع عن قناعة تامة.
وأعتقد بأنه لابدّ أن يكون هنالك حدودًا للتعصب وللمرونة أيضًا، فالأمرين يفصل بينهما شعرة، فهنالك أمورًا لا تقبل القسمة على اثنين كالأمور العقدية والدينية والمسلمات، وهنالك أمورًا لا ينبغي التعصب فيها بل تتطلب مرونةً عالية.

فالاختلاف أمرٌ واردٌ بين بني البشر، مُذ بدأت الخليقة على الأرض، ومما ذكره د. علي الوردي بأن مما يُقال “إن المقياس الذي نقيس به ثقافة شخص ما هو مبلغ ما يتحمل هذا الشخص من آراء غيره المخالفة لرأيه، فالمثقف الحقيقي يكاد لا يطمئن إلى صحة رأيه، وذلك لأن المعيار الذي يزن به صحة الآراء غير ثابت لديه، فهو يتغيّر من وقتٍ لآخر. وكثيرًا ما وجد نفسه مقتنعًا برأي معين في يوم من الأيام ثمّ لا يكاد يمضي عليه الزمن حتى تضعف قناعته بذلك الرأي.”
فحين تجعل هنالك مسافة بين رأيك الخاص وبين رأي الطرف الآخر فأنت تمنح نفسك فرصة للتطور، من خلال النظر إلى زاوية مختلفة عن الزاوية التي تنظر من خلالها، حين تمنح نفسك المرونة بالإنتقال من مكان إلى مكان معاكس فأنت تتمتع بأفق واسع من المعرفة والرؤية، وليس بالضرورة أن يتوافق الجانبان، قد يكون كلاهما صحيحًا، وقد تكون امتزت بحسن التفكير وقوّة المنطق وبُعد النظر عمّن لبث دهرًا في مكانه لا يرضى بأن يرى من زاوية أخرى للموضوع ذاته.
“ليس من العجيب أن يختلف الناس في أذواقهم وميولهم ولكن العجب بالأحرى أن يتخاصموا من أجل هذا الاختلاف.”
وذلك ما جعل الحقيقة تختلف من إنسان إلى آخر على مر العصور..
” حيث انقسم المفكرون منذ أيام الإغريق القدماء حول موضوع الفكر البشري: هل هو الذي يخلق الحقيقة أم أنها هي التي تخلقه؟
فأحد الفريقين الذين يسمون بالأفلاطونيين يقولون بأن العقل البشري ليس إلا مرآة للحقيقة حيث يعكس صورتها من غير تغيير أو تشويه.
أما الفريق الآخر وهم السوفسطائيون ففي رأيهم أن الإنسان هو مقياس الحقيقة، وهو الذي يخلقها برغبته وهواه ومصلحته ولذا فهي تتغير من شخص إلى شخص ومن حضارة إلى حضارة. فما يكون اليوم صحيحًا قد يكون خطأً في يوم آخر، وما هو حق في رأي فريق قد يكون باطلًا في رأي آخرين..
ولم يؤيد الكاتب هذين الرأيين، بل رأى أن هذين الفريقين المتشادين في فهم الحقيقة كلاهما على خطأ، وأن المنطق الحديث لا يميل نحو فريق منهما دون الآخر، فالحقيقة ذاتية وموضوعية في آن واحد.
وأما رأي (مانهايم) وهو أحد دعائم المدرسة الجديدة في المنطق يرى: إن العقل يقتبس من الحقيقة الخارجية جزءًا ثم يكمل يضيف إليها من عنده جزءًا آخر ليكمل بذلك صورة الحقيقة كما يتخيلها، وهذا ما جعل كل فرد يحمل حقيقته الخاصة كما يحمل حقيبته.”

ويلفتُ د. علي الوردي بأنه من النادر أن نجد إنسانًا يلذ له أن يصل إلى الحقيقة وهو مغلوب أو مهان أو خاسر. وكما قال (شوبنهور): إن إرادة الحياة فوق كل شعور، وهي الغرض الأساسي في سلوك الإنسان.
“فإذا غلبت أحدًا بجدل منطقي ظننت أنك قد أرشدته إلى الحقيقة وما دريت أنك قد دفعته إلى الضلال دفعًا –ذلك أنه قد أضمر الحقد عليك وأمست كراهته لك كامنة في عقله الباطن تتحين الفرص للوقيعة بك في كل سبيل-.
فالشخص المنغمس في إطاره الفكري والذي يجمد على ما اعتاد عليه من مألوفات اجتماعية وحضارية يصعب عليه أن يكون مبدعًا أو عبقريًا.
إن الإطار الفكري مؤلف من العقد النفسية والعادات الاجتماعية والقيم الحضارية، وهذه تعتبر بمثابة العراقيل التي تقف في طريق الإبداع الحر.
فالإنسان ميال بطبيعته إلى موافقة الجماعة التي ينتمي إليها. أما العبقري فيشعر أنه ينتمي إلى البشرية جمعاء ولذا فهو يخترق حدود الجماعة التي نشأ فيها ويثور على العرف الذي يدعم كيانها. إنه يخاطب الإنسانية كلها بلغة الحب، وكأنه إنسان من نوع جديد.”
لستُ بالضرورة أتفق مع منطق الكاتب ووجهة نظره بالكامل، ولكنّي أشعر بالتقدير لإنسان قام ببحثٍ موسّع، وناقش قضية معينة، بالرغم من أني لازلت في منتصف الكتاب وقد تكون هذه المقالة فاتحة لمناقشة الكثير مما ورد في الكتاب في مقال آخر، إلّا أنني أسقطت بعض مما ذكره على أرض الواقع، ووجدتُ توافقًا إلى حدٍّ ما، ووجدتني أؤيده في بعض الأفكار، بالرغم من بعض الأفكار الواردة في الكتاب والتي قمت بطرحها للنقاش بين مجموعة من الأصدقاء والمدونات وكان الموضوع يحمل الكثير من الآراء ووجهات النظر لعلّني أطرحها في مقالة أخرى.
قد يكون لك عزيزي القارئ وجهة نظرٍ أخرى لذات الموضوع الذي طرحته وللزاوية التي تناولت منها الموضوع، وإذا كان هنالك رأي مخالف أو رأي مؤيد فإنني أسعد بأن تناقشه من خلال صندوق التعليق.

 

 

 

 

 

 

مع التنويه بأن تعبئة الخانات المطلوبة للتعليق يكون :
كتاب الاسم في الخانة الأولى
ثم البريد الالكتروني في الخانة الثانية
ثم رابط موقعك الالكتروني أو مدونتك الشخصية (إن وجد) في الخانة الثالثة.
ثم كتابة التعليق في المربع الكبير أخيرًا.
وإذا واجهت صعوبة في كتابة التعليق قم بمراسلتي عبر البريد الالكتروني الخاص:
BushraAlfarhan@gmail.com