عن قوّة الـ (لا)!

هل تتحلّى بالقدر الكافي من القوّة ورباطة الجأش أن تقاوم ما استطعت لاستبقاء همتك، وبلوغ مُبتغاك!

أن ترفض التخلّي عن مُرادك، أن ترفض الاستسلام والتوقف عن المضي نحو هدفك. أن تقول لكل ما يعترض طريقك ويثنيك ويجلبُ الكسل والفتور “لا أبرحُ حتى أبلغ”، فتستمر في السعي، في التعلّم، في المواجهة والمقاومة حتى تبلغ، وإن كان استمرارك يعني “أن تمضي حقبًا” أن تمشي طريقًا طويلًا لأعوامٍ طويلة، أن تسلك دربًا تعلمُ مشقته ولكنّك تمضي دون هوادة، فليست العبرة بطول الطريق، بل بالهدف والغاية منه!

ولكن ما يهمّ لتستمر أن تعلم جيّدًا مالذي أخرجك لذلك الطريق الطويل، مالذي دفعك لتلك الرحلة الشاقة، أن تكون الرؤية واضحة تراها رؤيا العين، لا ينطفئ داخلك حتى تنال ماتصبو إليه، كلّما خبت همّتك أيقظتها وشددت من عزمك لإحيائها، فتتوهّج كلما لاح لك في الطريق إجابةً ترد على تساؤلاتك، وتظل تستقي من العلامات والدلائل والاجابات ما يوصلك أخيرًا. فتجد لمقاومتك ثمرةً، وتجد لوصولك لذة، إذ أنك لم تتراجع أو تتقاعس، لم تعد أدراجك يائسًا، ولم تستمع لكلام أحدهم حينما حاول أن يجرّد هدفك من الأهمية والجدوى، ويعيد ترتيب أولوياتك بما يتوافق مع أهوائه ورغباته ونظرته ومبتغاه.

إضافةً على ذلك أن تتعلّم قول (لا) وتجيد استعمالها، أن تقول لا لمصادر الألم، أن تقول لا لفعل لا يعجبك، أن تقول لا لفرصة أتت في غير أوانها أو فرصة لا تناسبك.

وتكمن قوة هذه الكلمة في استخدامها بعقلانية ومنطق، في ألّا تكون مرتجلة، ومتى ما كانت مرتجلة وتقال بغير هدف فإنها تفقد منطقيتها وصحتها وتصبح عنادًا وطيشًا وتصرفًا غير عقلاني البتة، إلى جانب أنها تملك الكثير من الفوائد، فوائد تعود على شخصية الفرد، على قوته وعلى وعيه وثقته بنفسه.

الذي يستطيع قول (لا) هو إنسان معتد بنفسه يعلم جيدًا مالذي يريده ومالذي لا يريده.

ستشعر بحماية حينما تعلم أنك قادرٌ على الرفض، وبأنك تعرف جيدًا غرضك من الرفض أو لنقل السبب الذي يدفعك إلى ذلك، ستشعر بمساحتك وبأن هنالك حدودًا تحتمي خلفها، لن تدفع نفسك في كل موقف، وتحت كل ضغط، أن تشعر بأنك تملك زمام أمرك، وأنك متحكم بما سيحدث ولو بقدر ضئيل، إضافةً إلى ذلك أنك لا تؤمل أحدًا، أو تحمّل نفسك فوق طاقتها.

كثيرًا ما توقف هذه الكلمة أنواعًا من العنف، علاقات غير صحية، عمل مرهق وسلبي يستنزف من جهد وصحة الانسان. ولكن أكرر أرجوكم استخدموها مع كثير من الحذر والمنطق، ال (لا) المرتجلة كانت سببًا في ضياع كثير من الأهداف. أنت لست قوي لأنك تستطيع الرفض أنت قوي لأنك تعلم جيدًا متى ترفض وماهو سبب الرفض، وماهي الصورة البديلة للشيء المرفوض.

إنّها مهارة، وتحتاج لكثير من المران!

تحدثتُ مرة عن فكرة إعجابي بالشخص الذي يعرف نفسه، الشخص الذي يتأمل ذاته وأفكاره على وجه التحديد، الشخص الذي يستمع إلى صوته الداخلي، والذي يعرف نفسه جيدًا، يعرف مالذي يريده ومالذي يرفضه، الشخص الذي ينظر إلى الحياة بعمق، الذي يصل إلى كنه الشيء وأصله وكينونته ولا يكتفي بظاهره، هو غوّاصٌ في الأعماق، لا يخدعه الموج، بل يغوص في داخله، هذا الوضوح والتجلّي يأتي من صدقٍ مطلق مع الذات، أن تكون صادقًا مع نفسك صدقًا لا يشوبه زيف أو خداع، أن تكون في مكاشفة دائمة مع النفس، في استرجاع لأخطائها والاعتراف بها وعدم تكرارها، واستحضار إيجابياتها ومكامن القوة والثناء عليها والحفاظ عليها، والعمل بجد على نقاط ضعفها وتحسينها.

هذا الانسان في كل مرة تلتقي به ستجده مُختلف، ولكن بطريقة رائعة، إنه انسان في دراسة دائمة لكل مواقف حياته، يستنتج التصرف الصحيح وينتهجه، ويستحضر أخطاء الماضي ويتجنبها، له سحرٌ في كلّ مجالسة.

لابدّ وأنك قد التقيت بهذا الشخص، لابدّ! رغم ندرته إلّا أنه حاضرٌ في مختلف الأمكنة والأزمنة، قد تجده صغيرًا في السن وحوله هالة من الذكاء والنباهة، أو قد تجده كبيرًا في السن حكيمًا تستقي منه خلاصة عمره الذي عاشه مُنتبهًا واعيًا ومُدركًا لكلّ مايحدث في داخل رأسه وخارجه.

تشدني مؤخرًا عدة برامج حوارية، تقوم فكرتها على استضافة شخصيات مختلفة، ثمّ يتحدثون عن أنفسهم وعن حياتهم وتجاربهم، بعضُ الأشخاص أشعر بأنه عندما يتحدث عن نفسه كأنه يتحدث عن أهم الأشياء في حياته، لشدة تعمّقه بذاته، واستحضاره لتفاصيل حياته، وانتباهه لكلّ شعور، لكل حدث، ولكل فشل ونجاح، تجده يتحدث عن كل ماحدث وكأنه يقرأ كتابًا، لشدة إدراكه لمسببات الأمور، ونتائجها، والحال الذي كانت عليه، والحال الذي كان من الواجب أن تكون عليه، يسرد أفكاره برويّة وإمعان ووضوح شديد، لقد وصل إلى مرحلة متقدمة من الانسجام والتناغم مع ذاته بسلبياتها وإيجابياتها، بجروحها وندوبها، وبجمالها وتألقها، وعلى النقيض تمامًا هنالك من يتحدث عن ذاته التي يراها الآخرون، لا يعرف حقيقة نفسه، ولكنه يعرف مالذي يُقال عنه، ويتحدث عن نفسه بلسان أشخاص آخرين، إمّا لإثارة الإعجاب أو لنقص وضعف الثقة بالذات، فتشعر به مشتّتًا متناقضًا، لا يعرف من يكون، يقول فكرةً ويناقضها بأخرى، لديه تصور غير حقيقي عن ذاته، وكأني أراه في نهاية اللقاء يصرخ تائهًا، (مالذي قلته!) من أنا! 

إنه في دوامة ومتاهة، لا يستطيع الاستدلال إلى نفسه.

ولا أسوأ من أن تفقد بوصلة روحك، أن تفقد اتجاهاتك، ألّا تستطيع التعبير عن نفسك، أو عن أفكارك، ألّا تعرف لمَ تفعل هذا أو ذاك، ألّا تعرف ماذا تريد، وإذا عرفته فإنك لا تعرف لماذا تريده!

أستطيع أن أخبركم حجم الجحيم الذي يعشيه هؤلاء الأشخاص وحجم الجحيم الذي يجلبونه لمن حولهم، تخيل أن تتعامل مع إنسان لا يعرف نفسه! ولا تعرفه أنت مهما حاولت التعرف عليه فإنك لن تستطيع، وكأنه شخصٌ مجهول، شخص مكتظّ بالكثير من الأفكار والاعتبارات عن نفسه، شخص هو عبارة عن كثير من التناقضات ولا تعلم أيهما صحيح.

إنّه أشبه بالمأزق الذي لا تستطيع فهمه وتحليله ولا تستطيع الخروج منه.

متى ما واجهت أمورك بشاجعة، متى ما علمت أنك مُتخّذ القرار، وأنك الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يحدّد إذا ما كان العبء ثقيلًا فلن يتوقف الآخرون عن شحنك والضغط عليك وإثقالك بالكثير من المطالب والرغبات والواجبات، صدقني أنتَ كائن غير شفّاف، لن يستنتج أحدهم مقدار الثقل والامتلاء الذي وصلت إليه، لن يلحظ الآخر بأن وجوده بات عبئًا عليك، مالم تصرّح أنت بذلك، وترفض تحمّل المزيد، لا تنتظر حتى تصل خطورة الأمر إلى التأثير على صحتك النفسية والجسدية، كُن واعيًا لإنائك، راقبه جيدًا، ولا تجعله يمتلئ بما لاترغب حدّ الفيضان، سيفيضُ وتفيضُ روحك، وتصبح الحياة أشبه بكابوس يثقل عليك.

أدرك جيّدًا صعوبة الأمر، وصعوبة الانتباه لمصدر الضغط، خاصةً عندما يعتاد المرء على ذلك المصدر، عندمَا يصبح الاعتياد أسهل بكثير من تجربة شيء جديد، عندمَا تكون الرّاحة في البقاء تحت ذلك الضغط أكبر من الخروج من منطقة الرّاحة، ولكن لن يستطيع أحدنا الإقرار بالشيء مالم يجرّب. ولا تغفل أهميّة الوعي والإدراك والنضج المطلوبة للخروج من المأزق، إنه ليس الهرب، بل الفهم والإدراك والمواجهة والمعالجة ثم اتخاذ القرار.

وأخيرًا.. تعلّم متى تضع (النقطة)، عندما يكون مابعد (الفاصلة) لا معنى له أو أهمية.