حرّية الانسان تبدأ داخل عقله!

هذه إحدى صباحات السّبت المُحببة إلى نفسي، قُمت مؤخرًا بإضافة عادات جديدة لروتيني اليومي، وذلك ما أشعرني بسعادة غامرة، وبرضًا عميق، أستيقظ في ساعات الصبح الأولى والتي يكون فيها الذهن في أعلى مستويات الطاقة، وأقرأ بقدر ما استطيع، أحاول جاهدة المحافظة على هذه العادة برغم تخلّفي عدة مرات إلّا أن محاولات استبقائها جديرة بالتقدير.

للتو أنهيت مشاهدة فيلم The Lives of Others عن القائد في الشرطة السرية في ألمانيا الذي يكلّف بمهمة مراقبة مُفكّر وكاتب مسرحي في فترة ماقبل سقوط جدار برلين في ألمانيا، حيث كانت تعيش ألمانيا الشرقية “الاشتراكية” والتي فُرضت على الناس بجميع صورها وأشكالها رغمًا عنهم. فعندما يبدأ بالمراقبة والتعمق في تفاصيل حياة المفكّر ويكتشف إيمانه العميق بأفكاره ودفاعه عنها يجد هذا القائد نفسه يبدأ بالتعاطف مع المفكّر والتستر عليه وتغيير الحقائق وتقديم تقارير مضلّلة لرؤسائه حتى لا يتعرض الكاتب والمفكر للسجن بسبب قيامه بتأجيج الآراء ضد الحكومة الاشتراكية.
ابتسمُ ابتسامةً مصحوبة بالكثير من المشاعر وأنا أنظر لوجه القائد وهو يبتسم برضا في نهاية الفيلم!

عندما تتصرف بما تمليه عليك إنسانيتك وضميرك بعيدًا عن المعتقدات المحشوّة داخل رأسك، والأفكار التي تم تلقينك إياها، والمهام التي اعتقدت بأنك ستعيشُ وتكرّس كل ثانية من حياتك لأجلها، تلك هي اللحظة التي تبدأ فيها حريتك، حريّة الانسان تبدأ داخل عقله، عندما يفكّر بحرية مُطلقة بعيدًا عن القيود.

مؤخرًا جُلّ ما أقوم به هو أن أطلق عنان التفكير في كلّ شيء، أن أخرج من الحدود الضيقة، أن أفكّر بكلّ ما يمكنني التفكير به، تخيّل أن يتم برمجتك على أن تفكّر في نطاق ضيق!
أقضي هذه الفترة مُبحرةً في التفكير بحقيقة الانسان، أقضي أوقاتًا أطول في التأمل، أهرب من الضجيج والناس إلى الطبيعة بدافع التأمل.
تتضخم الرغبة التحليلية في داخلي، تكبر شيئًا فشيئًا لدرجة يصعب عندها السيطرة على تبعاتها، أحلّل المشاعر الأفعال والدوافع، أمعن التفكير في الانسان والحياة والجدوى من كل شيء، وحقيقة الأفكار المُنتشرة والآراء السائدة حولي، وأشعر بالرغبة في الخروج من النطاق الضيق إلى نطاق أوسع، أحجمت عن إجراء الحوارات الصغيرة والتافهة، وبالتالي قلّت كثيرًا رغبتي في الكلام أو الاستماع إلى أي حديث، أُبدي مللًا ملحوظًا وسريعًا تجاه كل حديث أجد أنه لا فائدة أو طائل منه، هذه المرحلة يبدو كل شيء مُربك، عندمَا أهم بأي عمل يراودني سؤال “مالجدوى منه؟” فإلّم يكن ذا جدوى ومعنى حقيقي فإن رغبتي تموت تلقائيًا، وأتوقف عن الاستمرار فيه، وما أكثر الأشياء التي تركُتها بسبب هذه الفكرة! 
تبدو فكرةً جادةً ومُقلقةً وتدعو للضجر صحيح! نعم بدأت أشعر بالضجر إذ أن هنالك الكثير الذي لم أصل لمعناه الحقيقي، والكثير المتروك إلى أجلٍ غير مُسمّى.

قلتُ مرة لأحد الأشخاص: عقل الانسان سلاح ذو حدّين، والخوف أيضًا سلاح ذو حدين، وأعيش أنا بين الحدّين، وأشعر بأن الحياد هذا مُرهق كثيرًا. فبينما تحاول الوقوف في المنتصف دون تطرف أو إجحاف تشعر بأن طاقة التركيز تصل لذروتها، تعيشُ في انتباه مُفرط، ودقّةٍ عالية!
لذلك من المساعد أن تمشي وتنثر الأسئلة في الارجاء، وتستمع إلى حقيقة الأشياء من وجهة نظر الآخرين، ثمّ تشرع في تحليلها وفهم دوافعها، والتوصل إلى مدى صحتها.

أنهيت قراءة كتاب “عزاءات الفلسفة” لـ آلان دو بوتون، وتشدني طريقة تحليل الأمور ومناقشتها وإقامة الحجج حولها التي انتهجها سقراط، لقد كان يمشي بين جميع طبقات المجتمع الأثيني ويمطرهم بالأسئلة كي يفسر لهم سبب اعتناقهم معتقدات سائدة، لقد كان يسعى إلى تحديد ما إذا كان السائد يحمل أي مغزى أو معنى للصحة.
يذكر الكاتب بأنه قد يتم إضعاف إرادة التشكيك الخاصة بنا لأننا نشعر بأن آراء المجتمع ومعتقداتهم التي بُنيت عبر عصور طويلة وأزمنة مديدة تملك أساسًا منطقي، حتى ولو جهلنا ماهية ذلك الأساس، فإنّنا وبسبب إيمان عدد كبير بها، وعلى مدى زمن طويل، نجد أنّه من غير المعقول أن يأتي إنسان بسيط ويشكّك بكل تلك المعتقدات والأفكار أو أن يتجرأ بخرقها بكل ثقة، لا يبدو منطقيا أن يكون ذلك الشخص هو الوحيد الذي أدرك الحقيقة وحده، لذلك سيقمع نفسه ويتبع القطيع!، ولكن الكاتب يستدرك لاحقًا بأن غاية سقراط من ذلك لم تكن بأن يتم اعتبار مخالفة الآراء السائدة مرادفة للحقيقة أو للخطأ. بل يتم الحكم بناء على موافقتها أو مخالفتها للمنطق.
ويشير الكاتب أيضًا إلى أن العالم أكثر مرونة، وأن الآراء السائدة لا تنبع عادةً من فهم عميق وعملية تأمل صارمة، بل نتاج قرون من التخبط الفكري، وقد لا يكون هنالك سبب مقنع وكافي للكيفية التي تبدو الأمور عليها. وذُكر في الكتاب الكيفية التي يمكن من خلالها للمرء أن يفكر بنفسه، حيث أنه يمكن لأي شخص يمتلك عقلًا وحسًا فضوليًا وحسن تنظيم ويسعى للتدقيق في المعتقدات السائدة أن يبدأ محادثةً مع صديق في أحد الطرقات، بحيث يمكنه من خلال ذلك أن يصل إلى فكرة خلّاقه في أقل من ثلاثين دقيقة.
حتى الآن لا أؤمن إيمانًا تام بجدوى ذلك، فبالنسبة لي هنالك مرجعٌ أستند إليه وأعود إليه تجاه كلّ فكرة حائرة، أو شكٍّ قائم، ومرجعي الدائم هو الكتاب والسنّة، فباعتقادي أنّ القرآن هو نهج حياة، ونهجٌ للتفكير في هذه الحياة، ولكن وبشكل عام في الحياة اليومية البعيدة كل البعد المُعتقدات الدينية فإن نهج التفكير والتحليل يُنقذك من أن تعيش إمّعة، إن أحسن النّاس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، إنّه يحرّرك من معتقدات مجتمعية بعيدة كل البعد عن الصحة، إنّه ينقذك من ظلام الانقياد وراء كل فعل مجهول الدّافع والسببيّة! 
أعتقد بأن هنالك الكثير الذي أُعجبتُ به في الكتاب، والكثير الذي لم يُعجبني، ولكن الكتاب ببساطة أثار اهتمامي وحماسي للقراءة أكثر في هذا الجانب، وبالتأكيد أدعوك لقراءته، ولكن كنصيحة خالصة منّي قبل أن تبدأ بقراءة كتاب “عزاءات الفلسفة” أو أي من الكتب الفلسفية استمع إلى حلقة من بودكاست نُقطة بعنوان”السفسطة بين الماضي والحاضر” للشيخ عبدالله العجيري، حتى تتمكن بشكل نسبي من امساك العصا من المنتصف!

وبما أن شهيتي للقراءة لا تزال في ذروتها فقد اخترت كتابًا أعتقد بأنه الكتاب المُناسب في الوقت المُناسب، والذي أثق ثقةً كبيرة بأنه سيجيب على الأسئلة المفتوحة، وسيُغطي الجراح المكشوفة، وهو كتاب “الإسلام بين الشّرق والغرب” للكاتب علي عزت بيجوفيتش. لايبدو كتابًا سهلًا، بل يبدو بأنه سيشكّل تحدٍّ للعقل باستعداده أن يفهم حقيقة الانسان والحياة، عن الكيفية التي يحيا بها الانسان من خلال “الاسلام”. فالكتاب كما ذُكر عنه يكشف موقع الاسلام في إطار الفكر العالمي، فهو ليس نظرة للإسلام من الداخل، وإنما على الأرجح نظرة من الخارج، فموضوع الكتاب عن الاسلام ليس كمعلم بل كنظرة على العالم.

أتمنى أن تكون رحلتي في قراءة هذا الكتاب مُثمرةً، وأرحب بجميع الآراء حول أي من الكتب المذكورة.

قراءة في كتاب “السماح بالرحيل” Letting go!

أكثر الأفكار صعوبةً هي فكرَة أن علينا أن نسمح لشعورٍ ما بالرحيل، فنحن لا نتعامل مع شخصٍ يفهم ما نقول، نخبره بأن عليه أن يرحل فيفتح الباب ويرحل، لنصفق الباب خلفه ونتنهد بارتياح أنّنا لن نراه مجدّدًا، بل نتعامل مع ذاتنا.
واكتشفت بأن التعامل مع الذّات هو الأكثر صعوبةً وتعقيدًا، وأن الدهاليز والممرات المعتمة بداخل أرواحنا هي الأكثر وحشةً وغرابةً وخوفًا في الوقت ذاته.
أن نكتشف عالمًا غامضًا ربما لم نجرب قطّ الدخول إليه! ماذا لو وجدنا غرفًا ومشاهدًا وأحداثًا من أيام غابرة، طفولتنا و مراهقتنا…الخ

كم من الخرابات تراكمت هُناك!

ألا يبدو أمر مواجهتها أشبه بالسفر عبر الزمن، أن ننظف تلك الفوضى ونعيد ترتيبها، أن نرتب نفسنا من الداخل، أيضًا تخيّل معي كيف ستبدو ذواتنا بعد تنظيف تلك التراكمات! كأن شخصًا جديدًا خفيفًا خرج للتو إلى الحياة. الأمر ساحر.

أعتقد بأنّي وُفّقت في اختيار الكتاب، ووفّقت في اجتياز سنة العشرين عشرين بهذا الكمّ اللابأس به من الوعي والإدراك.

كتبت مرّةً منشورًا على الانستقرام أعبّر فيه عن حالة التشويش التي اعترتني أثناء قراءتي للكتاب:

التبست علي فكرة الكبت/القمع بالسماح بالرحيل، كيف أستطيع المقارنة، فعندما أحول انتباهي عن الشعور السلبي يعني بأنني أتجاهل أو أقوم بكبت أو قمع الشعو.
لاحقًا أجاب د. ديفيد على هذا التساؤل بأن الفرق هو أن الكبت عملية غير واعية، يتم وضع الشعور الغير مقبول خارج إدراك الوعي، ولا يتم التعامل معها، أما في تحويل الانتباه عن الشعور فأنت مدرك تماما للشعور ولكنك اخترت عدم الانغماس فيه، فأنت اعترفت بوجوده وقبلته ولكنك سمحت له بالرحيل، من خلال تحويل انتباهك عنه.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير الحالة أو تحويل الانتباه عن شعور الغضب في قوله: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع) .
وفي تغيير حالة الانسان الجسدية تغيير للحالة الذهنية، فيقل تأثير الغضب ثم يرحل. 

وهنا سأسرد بعض الأفكار التي استوقفتني، فالكتاب مليء بالكثير من الأفكار التي تحتاج حقيقة إلى تمعّن وفهم، ولكن لضيق الوقت والجهد سأتطرق بشكل سريع لما قد يجذبك لقراءة الكتاب، وقد تجد أنه قد لا يُفهم أو يُطبق بالكلية، ولكن به البعض المفيد الذي بالإمكان تطبيقه لارتباطه بأشياء حقيقية دلّ عليها القرآن، وأحدها وأقواها هو عبادة “التوكل” التي أراها الركيزة الأساسية في آلية السماح بالرحيل، فالتوكيل هو التسليم لله والاعتماد عليه في كل أمور الحياة، وهو من منظوري عبادة ونعمة في الوقت ذاته.

ورد في الآية: “قُل لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون”

وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتجيء بطانًا” وفي ذلك دلالة أنه رغم سعي الطيور للرزق، إلا أن الله الذي ساقها للرزق.

ونتوصل إلي استنتاج أن الأمور تبدأ وتحدث داخل عقلك، وقلبك.

أهم ما توصلت إليه من خلال قراءتي للكتاب، أنه يحاول أن يفصلنا عن التعلق بالموجودات، على ضوء “كُن في هذا العالم ولكن ليس منه”، يدعوك إلى التخلّي عن فكرة التعلق بالمشاعر والأفكار التي ظلت لفترة طويلة من الزمن مُخزنة بداخلنا، والتي ترتبط بأشياء عدّة في حياتنا وتحمل تأثيرًا سلبيًا. تخلّ عن شعور الأسى، اللوم، الغضب، التفاخر، الشعور بالذنب، الخوف….الخ
بالإضافة إلى أنه يعرض لك كل شعور وماهي الطاقة الكامنة خلفة، وماهي سلسلة الأفكار والمشاعر التي تجعلك تتمسك بذلك الشعور، فعلى سبيل المثال: الشعور بالذنب هو أحد أشكال الخوف من ألّا نحقّق الغاية والهدف الذي نسعى له، وبأن هنالك شيئًا أفضل علينا القيام به، ونتيجة أفضل ينبغي تحقيقها، وشيء أفضل يجب الحصول عليه، وذلك الأفضل لن نصل إليه إطلاقًا لأننا مهما وصلنا إليه فسيبدو بأن هنالك درجةً أعلى لم نحققها أو بأن الجهد الذي نبذله غير كاف فيحيطنا شعور بالذنب بأننا لا نقوم بالأمر كما ينبغي. تلك الأفكار المُرتبطة بالشعور بالذنب والتي تُخلّف هذا الشعور الذي قد يلازمنا لوقت طويل دون معرفة مصدره إن نحن لم نتوقف ونفهم سلسلة الأفكار المُرتبطة به.

“نحن نشعر بالذنب بغض النظر عما نقوم به، فهناك جزء من أذهاننا يخبرنا أن علينا فعلًا أن نقوم بشيء مختلف عما نقوم به وأيًا كان الذي نفعله “بصورة أفضل” “فيجب علينا” أن نحرز نقاطًا أكثر فيه.. “يجب علينا” أن نحب على نحو أفضل، “يجب علينا” أن نزداد طولا ونصبح أذكى وأقوى وأن نتثقف أكثر..”

أغلب الأشخاص مُحاطون بذلك الشعور، إنهم في سلسلة من الشعور بالذنب لدرجة مهولة، إنها طاقة مُعدية، وبالمقابل “يمكنك أن تسأل نفسك، ألا يمكنك فعل الشيء بدافع الحب لا الخوف والشعور بالذنب!؟”

أحد الأسئلة التي ناقشها د. ديفيد في كتابه هي أن أحد الأشخاص ترك الدين بسبب الشعور بالذنب، لأن الانسان يعتقد بأنه من الصعب تحقيق الأهداف! 
استوقفني ذلك الأمر لأني أجد الكثير من التعقيد والتشديد الذي يخلق حالة من العجز لدى الانسان، فينشأ التطرف! تجد إنسانًا في مرحلة من حياته يحاول أن يسد جميع الثغور، يتراكم بداخله شعورًا بالذنب والعجز لأنه مهما فعل فإنه يصطدم بانسانيته الضعيفة، بأهوائه ورغباته، ثم عندما لا يستطيع السيطرة عليها يشعر بأنه انحرف عن المسار وبأن الأمر في غاية الصعوبة، ثم يصبح على النقيض تمامًا. وهنا يتبادر السؤال:
“ألن يصبح من الأفضل اتباع تعاليم دينية، بدافع الحب والتقدير أكثر من الذنب والخوف.”

من أكثر الأفكار التي استوقفتني وأسقطتها على الحياة الواقعية، أن كل شخص حدثت في حياته أزمة ما يبدو أكثر وعيًا ونضجًا، وكأن تلك الأزمات حدثت لتكشف له جانب من جوانب الحياة وذاته، وما كانت لتنكشف لولا تلك الأزمة.
فيقول يونغ بأنه يوجد في أنفسنا جانب يدعى الظل، وهو عبارة عن أفكارنا ومشاعرنا المكبوتة التي لا نريد مواجهتها، وما تقوم به الأزمات هي أنها تكشف ذلك الجانب ونتعرف من خلالها على ظلنا، وهذا يجعلنا أكثر إنسانية ونضجًا في إدراك ما نتشاركه جميعًا في هذا العالم.

ومن الفصول المثيرة للاهتمام  في الكتاب فصل بعنوان “التحول” ويليه فصل “العلاقات”، ويتحدث فصل التحول عن التأثير الذي تحدثه آلية التسليم في جوانب الحياة المهمّة بالنسبة لأغلب الناس: الصحة والثروة والسعادة. 
ولنأخذ مثالًا عن أحد الجوانب وهو جانب الثروة، بأن نقوم بتحديد معاني المال الحقيقية بالنسبة لنا، سنتفاجأ بأن المال بحد ذاته ليس هو القضية الأساسية، بل الأكثر أهمية هو الإشباع العاطفي الذي نرغب بتحقيقه عن طريقه. وقد يكون الهدف والرغبة الكامنة خلفه هو الحصول على الاحترام والتقدير الذاتي، ستجد بأنك عندما تصل لمرحلة متقدمة من تقدير الذاتي يفقد المال طاقته في أن يكون مصدر قلق ووهم وغرور وتكبر، وغيرة وحسد. وبتغيير هذا الدافع أو هذه الرغبة وإعادة توجيهها نجد بأن المال في حد ذاته ليس الهدف الذي نسعى له، ثم تقلّ حاجتنا لنيل استحسان الناس، وبالتالي يتم التخلي عن الشعور والفكرة الكامنة خلف تعلقنا به.

كنت أستمع في تلك الفترة لبودكاست نقطة وبالتحديد حلقة “مالا يستطيع المال شراءه” بالتزامن مع قراءتي لهذه الجزئية بالكتاب حيث أن النقاش في الحلقة عن المعاني الأهم والقيم الأسمى التي لا يمكن للمال تحقيقها، فهنالك معانٍ أخرى أكثر قيمة من المال ذاته. وأن تقدير الانسان لذاته لا يتم من خلال استحسان الناس للحالة التي هو عليها، بل من خلاله هو! عندها سيتم التخلّي عن التعلق بالأشياء المادية التي نعتقد بأنها تحّقق لنا التقدير الذاتي والاشباع العاطفي الذي نسعى له. 

أيضًا عن السعادة، في حين أن الفكرة السائدة عن السعادة أنّها مؤقتة ومُرتبطة بالأحداث اليومية، أو بالآخرين، وأننا بحاجةٍ إلى أن يُشعرنا الآخرين بالسعادة، فنرى الاعتمادية في العلاقات قائمة على مبدأ “هل تقوم بإسعادي!” وإذا لم تقُم بهذه الوظيفة على أكمل وجه فإني لن أكون سعيدًا وبالتالي لا أرغب بك في حياتي.. فأصبحت السعادة هشّة ضعيفة بإمكان أي حدث أو موقف أو كلمة أن تُهاجمها وتقضي عليها.
الانسان الذي يُعلّق آماله وسعادته على الآخرين لن يشعر بالسعادة على الاطلاق، فكُلّ الأشياء مُتغيرة وليس بالإمكان التحكم بها فهي خارج سيطرتنا تمامًا، ولكن الذي يقع تحت سيطرتنا هو العقل والأفكار ونظرتنا للأمور، ومعنى الأشياء بالنسبة لنا.
والحقيقة أننا بمجرد أن نبدأ بمحبة وتقبل الآخرين لما هم عليه حقيقةً وليس لما يُمكنهم القيام به لأجلنا، لا نعود بحاجة إلى استغلال الآخرين ومحاولة كسبهم.
فتصبح العلاقات قائمة على الصدق، لا نتعرض للابتزاز العاطفي ونتوقف عن ابتزاز الآخرين من خلال الضغط العاطفي. فلا يعود هنالك شعور بالخوف وعدم الأمان في العلاقات.
“فالشخص لم يعد بحاجة للآخرين من أجل الإشباع الشخصي، ولكنه معهم باختياره، بسبب الحب والمتعة.”
ومن هنا تبدأ الحرية الداخلية. وتبدأ المشاعر الايجابية بالظهور، فتقل توقاعتنا تجاه الآخرين بأنهم مصدر سعادتنا وبدلًا من السعي للأخذ نتطلع للعطاء. وأيضًا سنكتشف أننا عندما نضغط علي الآخرين للحصول على ما نريد فإنهم سيقاومون تلقائيًا، وسنفقدهم ونفقد ما نحاول الحصول عليه في وقت واحد، فنتوقف عن الضغط عليهم.

وأخيرًا.. ولكي تتم آلية التسليم علينا ببساطة ألّا نقف عند نقطة معينة أو مرحلة معينة، علينا أن نتقبل فكرة أن الحياة تدور وخلال هذه الدورة هنالك أشخاص يدخلون الدائرة ليضيفوا بعض الأشياء أو يساعدونا في التخلص من بعضها ثم تنتهي فترة إقامتهم، يرحلون فيأتي غيرهم، هي هكذا الحياة، تعلقنا بفترة ما أو مرحلة ما أو شخص ما رحل ولن يعود، وتوقفنا عند تلك النقطة هو عكس دورة الحياة، ومناف للطبيعة التي تسير بها الأمور، فلندع الأمور تأخذ مجراها ولنمش مع الحياة بطبيعتها، نتقدم للأمام ولا نقف مكاننا.

“أنت تقاوم لأنك تحاول التمسك باللحظة، فكل لحظة تنقضي كما تظهر، فاسمح برحيل توقع اللحظة التالية ومحاولة التحكم بها أو التمسك باللحظة التي مرت للتو. اسمح برحيل التشبث بما حدث للتو واسمح برحيل محاولة التحكم بما تعتقد أنه على وشك الحدوث.”


ومن هنا تبدأ قوّة عظيمة في التسليم وعيش الحياة بسلام، عندما نعرف أسماء الله الحسنى، ونؤمن بكل اسم من اسمائه، نحن نستسلم ونسلم له الأمور كلها بثقة مطلقة، نحن نتيقن بأن المستقبل والغيب بيده، وأن خيرته النافذة خير من كل رغباتنا وأمانينا، وأن سعينا الحثيث هو اجتهادنا الشخصي لن يؤخر أو يقدم أمرًا قدر الله له أن يكون، إنه فقط فعلٌ يشعرنا بالرضا عن ذاتنا، يرضينا أن نعرف أننا نسعى إلى شيء ما، ولكن أثناء سعينا إن نسينا أن الأمر بيده سنفقد تركيزنا ثم سنكون أمام خيارين: إما أن نضاعف سعينا حتى نقضي على أنفسنا، أو أن نتوقف متعبين ويائسين، ونفقد توازننا! 
التوكل على الله والتسليم هو أساس التوازن في هذه الحياة، التوازن الجسدي النفسي والروحي، هو أساس السلام والراحة والأمان والاطمئنان، هو الذي يجعلنا نستمتع باللحظة دون قلق أو جزع أو هلع أو يأسٍ وتحسّر.

“فاختر الرضا يهُن عليك العبور”

أن نحبّ أقدارنا أيًا كانت، نتقبلها ونتعايش معها، فما قد حدث في الماضي قد انقضى، جيدًا كان أو سيئًا، فحين ننظر نظرة تقبّل سنجد بأن كل ما حدث حدث لحكمةٍ كانت سببًا لوصولنا لما نحن عليه اليوم، وسنجد بأنّها سلسلة من النّعم، ينظر لها الجاهل واليائس بأنها مُعاناة، وينظر لها القانع المؤمن الراضي بأنها نِعم قادته لما هو عليه اليوم، فنتوقف عن الشعور بالندم، والرجوع إلى الماضي لاستجلاب الحزن والأسى والغضب، نتوقف عن إلقاء اللوم والتُهم على الآخرين بأنهم السبب فيما حدث، أو الشعور بالذنب على ما كان وفات، تلك المشاعر قد تصرف نظرنا عن الجمال الموجود في كل ما حدث وما يحدث الآن، أن نُحب أقدارنا ونرضى بها، ولا نطلب ماهو غير موجود، فإن حدث فهو خير، وإلّم يحدث فهو الخير أيضًا.

عن قوّة الـ (لا)!

هل تتحلّى بالقدر الكافي من القوّة ورباطة الجأش أن تقاوم ما استطعت لاستبقاء همتك، وبلوغ مُبتغاك!

أن ترفض التخلّي عن مُرادك، أن ترفض الاستسلام والتوقف عن المضي نحو هدفك. أن تقول لكل ما يعترض طريقك ويثنيك ويجلبُ الكسل والفتور “لا أبرحُ حتى أبلغ”، فتستمر في السعي، في التعلّم، في المواجهة والمقاومة حتى تبلغ، وإن كان استمرارك يعني “أن تمضي حقبًا” أن تمشي طريقًا طويلًا لأعوامٍ طويلة، أن تسلك دربًا تعلمُ مشقته ولكنّك تمضي دون هوادة، فليست العبرة بطول الطريق، بل بالهدف والغاية منه!

ولكن ما يهمّ لتستمر أن تعلم جيّدًا مالذي أخرجك لذلك الطريق الطويل، مالذي دفعك لتلك الرحلة الشاقة، أن تكون الرؤية واضحة تراها رؤيا العين، لا ينطفئ داخلك حتى تنال ماتصبو إليه، كلّما خبت همّتك أيقظتها وشددت من عزمك لإحيائها، فتتوهّج كلما لاح لك في الطريق إجابةً ترد على تساؤلاتك، وتظل تستقي من العلامات والدلائل والاجابات ما يوصلك أخيرًا. فتجد لمقاومتك ثمرةً، وتجد لوصولك لذة، إذ أنك لم تتراجع أو تتقاعس، لم تعد أدراجك يائسًا، ولم تستمع لكلام أحدهم حينما حاول أن يجرّد هدفك من الأهمية والجدوى، ويعيد ترتيب أولوياتك بما يتوافق مع أهوائه ورغباته ونظرته ومبتغاه.

إضافةً على ذلك أن تتعلّم قول (لا) وتجيد استعمالها، أن تقول لا لمصادر الألم، أن تقول لا لفعل لا يعجبك، أن تقول لا لفرصة أتت في غير أوانها أو فرصة لا تناسبك.

وتكمن قوة هذه الكلمة في استخدامها بعقلانية ومنطق، في ألّا تكون مرتجلة، ومتى ما كانت مرتجلة وتقال بغير هدف فإنها تفقد منطقيتها وصحتها وتصبح عنادًا وطيشًا وتصرفًا غير عقلاني البتة، إلى جانب أنها تملك الكثير من الفوائد، فوائد تعود على شخصية الفرد، على قوته وعلى وعيه وثقته بنفسه.

الذي يستطيع قول (لا) هو إنسان معتد بنفسه يعلم جيدًا مالذي يريده ومالذي لا يريده.

ستشعر بحماية حينما تعلم أنك قادرٌ على الرفض، وبأنك تعرف جيدًا غرضك من الرفض أو لنقل السبب الذي يدفعك إلى ذلك، ستشعر بمساحتك وبأن هنالك حدودًا تحتمي خلفها، لن تدفع نفسك في كل موقف، وتحت كل ضغط، أن تشعر بأنك تملك زمام أمرك، وأنك متحكم بما سيحدث ولو بقدر ضئيل، إضافةً إلى ذلك أنك لا تؤمل أحدًا، أو تحمّل نفسك فوق طاقتها.

كثيرًا ما توقف هذه الكلمة أنواعًا من العنف، علاقات غير صحية، عمل مرهق وسلبي يستنزف من جهد وصحة الانسان. ولكن أكرر أرجوكم استخدموها مع كثير من الحذر والمنطق، ال (لا) المرتجلة كانت سببًا في ضياع كثير من الأهداف. أنت لست قوي لأنك تستطيع الرفض أنت قوي لأنك تعلم جيدًا متى ترفض وماهو سبب الرفض، وماهي الصورة البديلة للشيء المرفوض.

إنّها مهارة، وتحتاج لكثير من المران!

تحدثتُ مرة عن فكرة إعجابي بالشخص الذي يعرف نفسه، الشخص الذي يتأمل ذاته وأفكاره على وجه التحديد، الشخص الذي يستمع إلى صوته الداخلي، والذي يعرف نفسه جيدًا، يعرف مالذي يريده ومالذي يرفضه، الشخص الذي ينظر إلى الحياة بعمق، الذي يصل إلى كنه الشيء وأصله وكينونته ولا يكتفي بظاهره، هو غوّاصٌ في الأعماق، لا يخدعه الموج، بل يغوص في داخله، هذا الوضوح والتجلّي يأتي من صدقٍ مطلق مع الذات، أن تكون صادقًا مع نفسك صدقًا لا يشوبه زيف أو خداع، أن تكون في مكاشفة دائمة مع النفس، في استرجاع لأخطائها والاعتراف بها وعدم تكرارها، واستحضار إيجابياتها ومكامن القوة والثناء عليها والحفاظ عليها، والعمل بجد على نقاط ضعفها وتحسينها.

هذا الانسان في كل مرة تلتقي به ستجده مُختلف، ولكن بطريقة رائعة، إنه انسان في دراسة دائمة لكل مواقف حياته، يستنتج التصرف الصحيح وينتهجه، ويستحضر أخطاء الماضي ويتجنبها، له سحرٌ في كلّ مجالسة.

لابدّ وأنك قد التقيت بهذا الشخص، لابدّ! رغم ندرته إلّا أنه حاضرٌ في مختلف الأمكنة والأزمنة، قد تجده صغيرًا في السن وحوله هالة من الذكاء والنباهة، أو قد تجده كبيرًا في السن حكيمًا تستقي منه خلاصة عمره الذي عاشه مُنتبهًا واعيًا ومُدركًا لكلّ مايحدث في داخل رأسه وخارجه.

تشدني مؤخرًا عدة برامج حوارية، تقوم فكرتها على استضافة شخصيات مختلفة، ثمّ يتحدثون عن أنفسهم وعن حياتهم وتجاربهم، بعضُ الأشخاص أشعر بأنه عندما يتحدث عن نفسه كأنه يتحدث عن أهم الأشياء في حياته، لشدة تعمّقه بذاته، واستحضاره لتفاصيل حياته، وانتباهه لكلّ شعور، لكل حدث، ولكل فشل ونجاح، تجده يتحدث عن كل ماحدث وكأنه يقرأ كتابًا، لشدة إدراكه لمسببات الأمور، ونتائجها، والحال الذي كانت عليه، والحال الذي كان من الواجب أن تكون عليه، يسرد أفكاره برويّة وإمعان ووضوح شديد، لقد وصل إلى مرحلة متقدمة من الانسجام والتناغم مع ذاته بسلبياتها وإيجابياتها، بجروحها وندوبها، وبجمالها وتألقها، وعلى النقيض تمامًا هنالك من يتحدث عن ذاته التي يراها الآخرون، لا يعرف حقيقة نفسه، ولكنه يعرف مالذي يُقال عنه، ويتحدث عن نفسه بلسان أشخاص آخرين، إمّا لإثارة الإعجاب أو لنقص وضعف الثقة بالذات، فتشعر به مشتّتًا متناقضًا، لا يعرف من يكون، يقول فكرةً ويناقضها بأخرى، لديه تصور غير حقيقي عن ذاته، وكأني أراه في نهاية اللقاء يصرخ تائهًا، (مالذي قلته!) من أنا! 

إنه في دوامة ومتاهة، لا يستطيع الاستدلال إلى نفسه.

ولا أسوأ من أن تفقد بوصلة روحك، أن تفقد اتجاهاتك، ألّا تستطيع التعبير عن نفسك، أو عن أفكارك، ألّا تعرف لمَ تفعل هذا أو ذاك، ألّا تعرف ماذا تريد، وإذا عرفته فإنك لا تعرف لماذا تريده!

أستطيع أن أخبركم حجم الجحيم الذي يعشيه هؤلاء الأشخاص وحجم الجحيم الذي يجلبونه لمن حولهم، تخيل أن تتعامل مع إنسان لا يعرف نفسه! ولا تعرفه أنت مهما حاولت التعرف عليه فإنك لن تستطيع، وكأنه شخصٌ مجهول، شخص مكتظّ بالكثير من الأفكار والاعتبارات عن نفسه، شخص هو عبارة عن كثير من التناقضات ولا تعلم أيهما صحيح.

إنّه أشبه بالمأزق الذي لا تستطيع فهمه وتحليله ولا تستطيع الخروج منه.

متى ما واجهت أمورك بشاجعة، متى ما علمت أنك مُتخّذ القرار، وأنك الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يحدّد إذا ما كان العبء ثقيلًا فلن يتوقف الآخرون عن شحنك والضغط عليك وإثقالك بالكثير من المطالب والرغبات والواجبات، صدقني أنتَ كائن غير شفّاف، لن يستنتج أحدهم مقدار الثقل والامتلاء الذي وصلت إليه، لن يلحظ الآخر بأن وجوده بات عبئًا عليك، مالم تصرّح أنت بذلك، وترفض تحمّل المزيد، لا تنتظر حتى تصل خطورة الأمر إلى التأثير على صحتك النفسية والجسدية، كُن واعيًا لإنائك، راقبه جيدًا، ولا تجعله يمتلئ بما لاترغب حدّ الفيضان، سيفيضُ وتفيضُ روحك، وتصبح الحياة أشبه بكابوس يثقل عليك.

أدرك جيّدًا صعوبة الأمر، وصعوبة الانتباه لمصدر الضغط، خاصةً عندما يعتاد المرء على ذلك المصدر، عندمَا يصبح الاعتياد أسهل بكثير من تجربة شيء جديد، عندمَا تكون الرّاحة في البقاء تحت ذلك الضغط أكبر من الخروج من منطقة الرّاحة، ولكن لن يستطيع أحدنا الإقرار بالشيء مالم يجرّب. ولا تغفل أهميّة الوعي والإدراك والنضج المطلوبة للخروج من المأزق، إنه ليس الهرب، بل الفهم والإدراك والمواجهة والمعالجة ثم اتخاذ القرار.

وأخيرًا.. تعلّم متى تضع (النقطة)، عندما يكون مابعد (الفاصلة) لا معنى له أو أهمية.