“الإنسان الذي يعرف نقاط ضعفه يملك فرصة حقيقة في تحويلها إلى نقاط قوة”
غازي القصيبي- حياة في الإدارة
ابتدأت الرحلة مع الرفيق اللطيف الحكيم، غازي القصيبي -رحمه الله- أنتقل بين جزء وآخر في كتابه “حياة في الإدارة” بخفة، أمرّ على كلماته مرورًا رشيقًا يرسم ابتسامة إعجاب على شفتي، كنت أعود من عملي مرهقة، أنام باكرًا لأتفاجأ في منتصف الليل بأن عيناي سئمت الرقاد فتفتحت على مصراعيها، أنفض النعاس، أمد يدي إلى مفتاح الإضاءة على منضدتي، أشعل الضوء، ثم أسبح في صفحات الكتاب إلى أن يعود النعاس أدراجه إلى عيني ثانيةً، وهذه تفاصيل الرحلة، أحمل الكتاب معي حيثما ولّيت وجهي، عندمَا أكون مع عائلتي ويداهمُ الصمت المجلس، أسترق اللحظات لأغوص في الكتاب، أشرب السطور بعطش، ثم أعود للواقع، أركب سيارة العمل مهرولة مسرعة، وما إن ترتد إلي أنفاسي حتى أغوص مرة أخرى في الكتاب، دون أن أشعر بسير السيارة.
“حياة في الإدارة”
“لم يكن هنالك قرار واحد فُرض علي فرضًا، لم يكُن هناك عمل قمت به وأنا معذب الضمير”
هكذا ببساطة لخص لنا غازي قواعد حياتية وإدارية، مبادئ قيّمة لا توجد في إنسان إلا ويرتقي بها، ومن الدروس التي تعلمتها في مسيرتي البسيطة في المجال المهني؛ أن يكون ارتباطك بالمبدأ أقوى وأشد وأمتن من ارتباطك بالكرسي أو المنصب، الكرسي يزول والمنصب يزول، ولكنّ المبدأ هو ما يتبقى لك ويرافقك بقية حياتك.
لا تهتمّ بالبروز على أكتاف غيرك، لا تلمّع عملك ليظهر بأفضل ما يكون دون أن تنظر لدقته وجودته الجوهرية، فالمظهر لا يغني عن الجوهر، والعملية تكاملية، ستهترئ القشرة الخارجية ولن يساعد على ثبات العمل سوى الجوهر الصلب القوي.
ليسَ من الخطأ أن تخطئ، ولكن الخطأ كل الخطأ ألّا تعترف بالخطأ، وألّا تجعله درسًا تتعلم منه.
رزقك لا يملكه أحد، ولقمة عيشك ليست في يد أحد يمدها إليك إن شاء ويمنعها عنك إن شاء، الرزق تكفّل به الرزاق، أما العمل فواجبٌ عليك العمل والبذل، وواجبٌ عليك صدق النية والإخلاص في العمل، وواجب عليك تجويد العطاء.
قال لي أحد الأشخاص يومًا: ” أنتِ عجولة، تفتقدين إلى الصبر، تريدين امتلاك كل شيء في ذات اللحظة، لا تنظري للمفقود حتى لا تفقدي الموجود”
كانت عيناي تنكران بشدة ما يقول، لكن دائمًا ما أبقي العبارات التي توجّه لي داخل رأسي، أمحصها مرةً واثنتين وثلاث، حتى أصل إلى الصواب، أو إلى ما هو أقرب إلى الصواب.
لم يمر على ذلك الحديث أكثر من أسبوعين حتى قالت لي صديقة العمل: “أنا وأنتِ لدينا ذات المشكلة، نريد لكل شيء أن يحدث فورًا، ينقصنا الصبر، نريد الكمال لكل شيء”.
تذكرت الآية:
“ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم”. الحجرات-آية٥
وأيضًا ذكر الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه “حياة في الإدارة” موقفًا جعلني أمعن النظر في الأمر أكثر.
” اكتشف الأمير فهد منذ الشهور الأولى عنصرًا من عناصر شخصيتي كان يتمنى لو لم يوجد: الاندفاع الشديد. كان يقول، أحيانًا، في مجالسه الخاصة: “لو رُزق فلان بعض الصبر لكان إنسانًا مثاليًا”. قال لي أكثر من مرة: “لماذا أراك مشتطًا طيلة الوقت؟ عمل الحكومة لا ينتهي”. وقال لي مرة: “ارفق بنفسك. لو مت على المكتب ستعرف ماذا سيقول الناس؟ سيقولون: “مجنون قتل نفسه”. لو وُلدتُ صبورًا لكنت إنسانًا أفضل من جميع الوجود، ولكني كنت سأكون إنسانًا مختلفًا عن الإنسان الذي عرفه الأمير فهد وعرفه الناس.”
الإنسان الذي يملك طموحًا وأهدافًا لن تكون الحياة سهلة ومذللة لأجله، هذا ما تيقنت منه عندما واجهتني عقبات لم تكون بالحسبان، ولكن وكما ذكرت سابقًا، الذي اختارك لهذا المكان لا يكلفك إلا بما هو في استطاعتك، وكلما كان المكان الذي اخترت لأجله صعبًا دلّ ذلك على أنك تمتلك القدرة على مواجهته،
“مكان القيادة لا يُعطى بل يُنتزع بالطموح والإصرار، وبتلويث الساعدين بغبار المعضلات وتبليل القدمين بغبار الأزمات” -غازي القصيبي.
دائمًا ما أحرص على أهمية معرفة الإنسان لنقاط ضعفه، ذلك يمنحه فرصة كبيرة لتحويلها إلى نقاط قوة، بعكس الإنسان الذي لا يعرف نقاط ضعفه، ولا يريد التعرف عليها، لن يستطيع مواجهتها، ستظل تلك النقاط مكمن خلل في شخصيته، ستكون عقبة تعيق تقدمه.
“الإنسان الذي يعرف نقاط ضعفه يملك فرصةً حقيقة في تحويلها إلى نقاط قوة. على الذين لا يعرفون أن يستعينوا بلا تردد، بمن يعرفون” -حياة في الإدارة.
وذلك ما حاولت الحرص عليها منذ يومي الأول في مجالي المهني، لم أتوانى لحظة في التواصل مع الباحثين والمستشارين والمختصين، بالإضافة إلى زملاء العمل، المرحلة المهنية بالنسبة لي هي مرحلة تعلم وتطوير، لابد وأن تكون الاستشارة نهجًا ثابتًا، وأن يكون السؤال مفتاح للمعرفة، لا ينبغي الخشية من طرح الأسئلة، والمهم في كل ذلك أن ترتبط الأجوبة ببعضها، أن تكوّن في النهاية معرفة صحيحة وواضحة، أن لا تكون ناقصة.
وفي نهاية المقال، أختم بأن الحياة مضمار تجارب وتعلم، والمواقف هي الامتحان الذي تتعرض له، والفشل في المرة الأولى خير من النجاح في المحاولة الأولى، الفشل يعرّفك على احتمالات كثيرة ومتعددة للأمر، بعكس النجاح الذي لن يعرفك إلا على وجه واحد واحتمال واحد، قد ترضى به، ولكنه لن يعطيك أكثر من درس واحد، دائمًا بعد المواقف ابحث عن الدرس، واحفظه جيدًا.
حظًا سعيدًا يا أصدقاء.